Higgs Tours - Ocho Rios Jamaica
Contact us at 876-850-1396 or nhigs57@yahoo.com
الرؤية الإسلامية لحزب الاستقلال (العمل الجديد سابقا)
❤ : التواصل على الانترنت بغرض الزواج بغزة لا يجوز شرعا وبالضفه يجوز
التنمية الحقيقية التى تنقل البلد من حال إلى حال أشبه بالحرب التى تحتاج إلى قيادة مركزية حازمة ويقظة, وتحتاج إلى تعبئة شعبية, وحرارة فى التنفيذ, وشحذ للهمم، وتحتاج لتعديلات فى الخطة هنا أو هناك بناء على أى مستجدات تطرأ على الساحة. وهذا أمر لا يسمح به صاحب الباطل إلا مضطرا! وكان الفتح العربى فى مضمونه صراعا مسلحا مع القوة الرومانية المحتلة لهذه البلدان، وليس مع شعوب المنطقة، بل إن تعاطف الشعوب مع القادمين العرب وبسمعتهم التى سبقتهم فى التسامح واللين والعدل والإحسان والزهد فى الحياة الدنيا، تعاطف الشعوب فى بلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا هو الذى سهل الفتح العربى الذى حقق إنجازات كبرى فى مواجهة قوة عظمى كالإمبراطورية الرومانية فى سنوات قليلة.
ومن مصلحة الإسلام أن تستمر الانتخابات الحرة حتى يكون فى ذلك تحصينا للحكم من الفساد والاسترخاء. فى الولايات المتحدة تقول الإحصاءات أن اثنين من كل ثلاثة إناث يتعرضن للإساءة أو التحرش كمعدل عام، ويتم استهلاك 60% من مخدرات العالم, ولديها أعلى معدل للجريمة فى العالم, فلا يمكن أن نعتبرها مجتمعا أكثر تحضرا من المجتمع المصرى، فما أهمية المستوى الأعلى رفاهية فى غياب الأمان والطمأنينة. ولم يكن من قبيل الصدفة أن الجيش الأمريكى لم يقم بأى أنشطة تذكر فى أى مكان آخر من العالم، وأن 99% من نشاطه العسكرى الفعال أى غير الروتينى هو فى هذه المنطقة, والولايات للمتحدة لم تحكم قبضتها على المنطقة بهذه الجيوش التى رأينا ماذا فعلت بها المقاومة؟ ولكن أحكمت قبضتها بالنظام الرسمى العربى، حيث أقامت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وعلى مراحل علاقات مؤسسية مع معظم الأنظمة العربية, بحيث أصبحت التبعية للولايات المتحدة هى الدستور الحقيقى للبلاد.
وقد كان الباعث المباشر لفتح مصر، تأمين الشام التى حررت من الرومان، خوفا من قيام الرومان بإعادة غزوها من قواعدهم فى مصر. ولا يتم ذلك عبر التزوير الساذج كما يحدث فى مصر. كيف يكون المقتولون المقهورون المسحوقون المهاجرون الهاربون من القتل هم أنفسهم حائط صد ضد من حاول أن يعدل هذا الميزان فيضحي في سبيل ذلك بنفسه وماله وأهله. كما أن تعاملها مع الهند يتم بصورة ندية متكافئة، بعد أن فرضت الهند نفسها على الساحة الدولية. لحقت بكرامته وعظمته وعظمة أسرته. والدائرة الإسلامية الأوسع التى تمتد حتى إندونيسيا شرقا. الوسيلة الثانية: هى المحاسبة البعدية أى بعد إعطاء السلطة التنفيذية صلاحية التعامل مع موضوع معين أو قضية معينة تتم محاسبتها فى البرلمان على إجمالى النتائج، هذا فى الحد الأدنى زمنيا, والحد الأقصى يكون بمحاسبة الحكومة فى الانتخابات الرئاسية والتشريعية بإقصاء رموزها وحزبها, وهو حساب على إجمالى أدائها. لا ينبغي لأحد أن يستهين بأثر الطغيان القاهر على النفوس، هؤلاء الناس لم يجرؤوا على اتباع السحرة الذين احتشدوا لاتباعهم من البداية، وهؤلاء العناصر من الجيش والشرطة قد توحدوا مع الطاغية حتى أنهم عذبوا المؤمنين ولم يحاولوا التفكير في أن يؤمنوا بموسى بعدما رأوا هذه المعجزة الساطعة. والواقع أن تركيا التحقت كما ذكرنا بالخط الذى تنتهجه إيران وماليزيا فى هذا المجال. مثلا عندما صممت كل من الهند وإيران الأقمار الصناعية لم تبدأ من الصفر ولكنها درست كل ما نشر عن صناعة الأقمار الصناعية, وأرسلت طلابها إلى جامعات متطورة فى التخصصات التى تفيد هذا المجال.
الرؤية الإسلامية لحزب الاستقلال (العمل الجديد سابقا) - ، وأن هناك قواعد أكثر تشددا فى اختلاط الجنسين، وأن العمل يتوقف لأداء صلاة الظهر، وأن بعض الرجال لا يلتزمون بالزى الأوروبى!!
أكثر الأسئلة التي كان يطرحها الإعلام العلماني على أي سياسي إسلامي: ماذا ستفعلون في النساء العاريات على الشواطيء، في النساء غير المحجبات واللاتي لا يردن أن يرتدين الحجاب، في مصانع ومحلات بيع الخمور، في السينما والمسرح، في رياضات السباحة وفن الباليه... وبالرغم من هذا فإن الحملات الإعلامية العلمانية وحديث المثقفين العلمانيين يأخذ هذه الصورة: هؤلاء خطر على الحريات، هؤلاء خطر على الفن والثقافة والسياحة والرياضة والمسرح، هؤلاء لا يفكرون إلا بغرائزهم ولا ينتبهون إلا للمرأة وحجاب المرأة ويتركون هموم الوطن الاقتصادية والإنتاجية والتعليمية، هؤلاء طلائع الظلام القادم من العصور الوسطى الرجعية! ثم حين يكون العلماني في موقع السلطة، بانقلاب أو توريث، مدعوم بالدول الأجنبية بطبيعة الحال، فإنه لا يفعل شيئا في أبواب الاقتصاد والسياسة والإنتاج والطاقة والتعليم، أبدا.. بل هو يتوجه من ناحيته لمحاربة دين الناس وعقيدتهم وأخلاقهم، لا حرية متاحة إلا حرية الانحلال والإباحية، ولا تقدم إلا على مستوى انتشار الخمور والفجور، ولا قوانين تصدر إلا التي تزيد من سطوة الحاكم العلماني وهيمنة الأجنبي ومحاربة الدين. وهاهو الباجي قايد السبسي لم يجد شيئا ينبغي أن يهتم به سوى إصدار قانون يُسَوِّي بين الرجل والمرأة في الميراث رغم امتلاء تونس بالمشكلات! ومع هذا فالنخبة الثقافية العلمانية بامتداد العالم العربي لا تحدثه عن هذه المشكلات المزمنة بل تصفق له على هذه المشكلة الجديدة التي يصنعها في بلده. هذه هي أولويات العلمانيين.. وإنها لأولوياتهم منذ وُجِدوا في بلادنا، فهم أبناء الاستعمار الأجنبي وربائبه، وما كان لهم أن يصلوا إلى السلطة ويحكمونا إلا بقوة الاستعمار المسلحة ودعمه، وبقدر ما أنهم رسَّخوا وعَمَّقوا ما نحن فيه من التخلف على سائر المستويات بقدر ما أنهم نشروا في بلادنا الكفر والانحلال والتهتك. بعضنا جاهل بهم وهو جهل فادح فاضح لا يُعذَر صاحبه به، وبعضنا من ضعفه وعجزه يريد أن يتوهم هذا لئلا يواجه الحقيقة التي تزيده شعورا بحجم التكاليف والمسؤولية، وبعضنا من أخطائه وفشله وخياناته أيضا يُسَوِّق هذا الوهم لئلا يقال عنه: أخطأ وفشل وخان. هؤلاء الذين هم منا، هم من يجبروننا على إعادة التكرار والثرثرة في الكلام المعروف المملول عن عداوة هؤلاء وكونهم صنائع الاستعمار وممثلوا مصالحه في بلادنا.. وهم من ناحيتهم لا يُقَصِّرون في إظهار عداوتهم، فما إن تلوح لهم فرصة حتى تكون منازلنا بين القبور والسجون والمنافي، بين من قضى نحبه ومن ينتظر، من لم يمت بالرصاص مات بالتعذيب، ومن لم يمت بالمشنقة مات من أمراض السجن، ومن لم يمت بهذا كله مات بباب من أبواب الفساد الذي ينشرونه في بلادنا: تحت ركام عقار بُني بخلاف مواصفات الأمان، أو في حرقا في قطار، أو غرقا في سفينة، أو تحت عجلات سيارة على الطريق العام. إن أي حساب لتكلفة بقاء هذه الأنظمة على أمتنا سيؤدي مباشرة إلى نتيجة تقول: إن كل فوضى ناتجة عن الثورة عليهم وإسقاط أنظمتهم هي بكل تأكيد أهون وأقل ضررا، فحجم ضرر هذه النظم على الأمة لمدة ستين سنة لا يمكن حصره، بينما لا يمكن أن تستمر فوضى في مكان ما لستين سنة مثلا، الناس يستطيعون تدبير أمرهم وحكم نفسهم والتكيف مع أوضاعهم أفضل كثيرا من حالهم تحت أنظمة قاهرة تتفنن في قتلهم وسلب أموالهم وتمكين الأجنبي في بلادهم. وقد ثبت من سيرتهم التي كتبوها بدمائنا، ورسموها بسياطهم فوق لحومنا، أنهم لا يؤمنون بشيء، إذ ليس من مبدأ أو قاعدة يمكن التفاهم معهم عليها، لا هم يؤمنون بالديمقراطية ولا بالحريات العامة ولا بحق الشعب في المتابعة والمراقبة فضلا عن المحاسبة. فمن هاهنا كانت لحظات الثورات العربية لحظات فارقة ذهبية لقلب هذا الوضع، والتخلص من هذه الأنظمة، ذلك أن الشعوب لا تنفجر متى أردنا ذلك، بل ولا تزال تحير علماء الاجتماع في تحديد توقيت وأسباب انفجارها، إلا أن أولئك الجاهلين المغفلين منا سارعوا لامتصاصها وتبريدها، بل وظفت الأنظمة بعضا منهم لتداركها قبل وقوعها، حدث هذا في مصر وتونس والمغرب واليمن والأردن. في تلك البلاد، كان الإسلاميون وسيلة امتصاص وتبريد الثورات وتداركها، رغم أنهم أكثر الكاسبين من نجاح الثورات، وأول الخاسرين إذا أخفقت، بل وهم من قبلها مضطهدون ومن بعدها مضطهدون. فالإسلاميون في اليمن هم من شلُّوا حركة الثورة وأدخلوها في دهاليز اللقاء المشترك والمبادرة الخليجية وترتيبات المبعوث الأممي حتى أكل الحوثي اليمن، وقد كانوا قادرين —فقط لو تجاسروا وقرروا- أن يُجَنِّبوا اليمن مصيره المريع الذي يلقاه اليوم بين طرفين مجرمين: الحوثي ممثل إيران مقابل السعودية والإمارات، ولا يدفع الثمن إلا أهل اليمن. والإسلاميون في المغرب قبلوا أن يشاركوا مشاركة شكلية في الحكومة التي هي بلا صلاحيات ليكونوا درع القصر في الالتفاف حول الثورة الوشيكة، وليكونوا أيضا سيفه في طعنها والقضاء عليها في مهدها، وقد فعلوا، ثم وجدوا أنفسهم بلا صلاحيات ولا قدرة، بل إذا نجحوا فالمدح متجه لجلالة الملك وإذا فشلوا فالسب والشتم متوجه إليهم! ومثل هذه التجربة تقال عن الأردن أيضا مع تغيير تفاصيل غير مؤثرة! حالة عجيبة من حالات الانكسار النفسي والهزيمة المعنوية! تجربة تونس فريدة جدا في بيان نكبتنا ونكستنا العربية الإسلامية، وواحدة من أهم الشواهد الضخمة المنتصبة على ما نحن فيه من التيه. يقولون عن راشد الغنوشي مفكر، رغم أن سلوكه السياسي نموذج من السذاجة والضعف والارتباك ثم الفشل. ولا يمكن تفسير مساره إلا أنه آمن بالديمقراطية أكثر من إيمانه بالله وبكتابه وبرسوله، فإن كلام الله وسيرة رسوله ضد الغنوشي على طول الخط.. والغنوشي الذي تأسف قديما وأدان الحركة الإسلامية لأنها لم تهتم بعلوم الاجتماع والتاريخ والاقتصاد ظهر أنه لم يعتبر من هذه العلوم ولم يستفد منها شيئا! فانتهى هذا إلى أنها أسلمت الثورة إلى نظام بن علي نفسه مرة أخرى، وبشرعية كاملة، وهي الآن لا تملك أن تحمي نفسها من أن تنزل نفس السجون إن قررت السلطة أن تفعل هذا. وبالموازاة مع هذا كله أسهلت حركة النهضة في التنازل عن الإسلامي وتكييفه وتأويله وتطويعه وتعديله ليتفق مع رغبات الحداثة الغربية العلمانية الغالبة. سيقولون: كل هذه البلاد وفَّرت على نفسها الصراع والدماء الذي انطلق في مصر وليبيا وسوريا. ونقول: الاستسلام حلٌّ يجيده كل أحد، ويملكه كل أحد، ولا يُعدَّ ذكاء ولا حكمة أنك تنسحب من المعركة، تنسحب منها في أفضل فرصة ممكنة فرصة ثورة شعبية.. ولا يُمدح أحدٌ بأنه انسحب من كل معركة فوفَّر على نفسه وجنوده الحياة! هذا يسمى انسحابا واستسلاما وضعفا وجبنا ويسمى أيضا خيانة!.. ولا يُعدّ الانسحاب حكمة إلا من قائد تتواصل انتصاراته لكنه انسحب من واحدة أو اثنتين لظروف رآها، أما من يقضي حياته في الانسحاب وتجنب المعارك فلا يسمى حكيما بل جبانا! نعم، مرسي لم يكن رئيسا جيدا، لم يخض المعركة بحقها في الوقت الذي كان الشعب فيه معه، لكن صمود اللحظة الأخيرة هو ما جعل صورة الحق والباطل واضحة في مصر حتى الآن، وهذا ما يُحسب له، لا يزال السيسي عسكريا منقلبا.. بينما لا يستطيع أحد أن يقول مثل ذلك عن السبسي في تونس! فإنه يتمتع بشرعية كاملة! وهكذا ماذا تكون الثورة قد حققت من النتائج، إن نحن أخذت حركة النهضة بناصيتها فأعادتها إلى النظام القديم ومعها الشرعية التي تنقله من مغتصب إلى ديمقراطي؟! هذا مع أنه لا ضمانة أبدا أنه سيحترم هذه الديمقراطية ولن ينقلب عليها، إذ لسنا نعرف من أخلاقهم ولا من أخلاق داعميهم الإيمان بالديمقراطية، كما ليس بأيدي النهضة والغنوشي من الضمانات الواقعية والاستعدادات العملية ما يجعلهم يتخوفون من الانقلاب على الديمقراطية. إذا أردنا إجمال الحقائق في عالم البشر والسياسية فسيكون من بينها هذه الأمور: 1. لا تنهض الأمم إلا حين تمر بمخاضات عسيرة مؤلمة تفقد فيها كثيرا من الخسائر حتى يتحقق لها التحرر والاستقلال الذي يؤهلها لتكون قوى كبيرة وعظمى فيما بعد. الاستبداد المعاصر هو صنيعة الاحتلال، والاحتلال داعمه وكفيله، فمعركة التصدي للاستبداد الداخلي هي جزء من معركة التحرر من الاحتلال الأجنبي، وهؤلاء الحكام وهذه الأنظمة ليسوا مجرد وطنيين وقع بيننا وبينهم الاختلاف في الرأي والنظر وطريق النهضة، بل هم وكلاء الاحتلال الذين يحاربون هذه البلاد وأهلها أشد مما كان يحاربها أسيادهم. ليس من مستبد ولا محتل يرحل من مكانه ويفرط في سلطانه لمجرد احترام الرغبة الشعبية، بل لا يرحل مستبد ولا محتل إلا كارها مقهورا مجبرا بعد استنفاد وسائله في التشبث والبقاء. الثورات لحظات فارقة ونادرة ولا تتكرر كلما شئنا. ومن هنا فإن إفشال الثورات بتبريدها وتسكينها وتخديرها قبل تحقيق التمكين الحقيقي لممثلي الشعب —وهم في بلادنا الإسلاميون- ليس إنقاذا للأوطان من الفوضى، بل هو إنقاذ للأجنبي من الورطة التي قد تنفجر في وجهه وتُخرجه من البلد. وساعتئذ سنرى أن احتمال الألم في المخاض حتى الاستقلال والتحرر من الاستبداد والاحتلال أهون كثيرا كثيرا كثيرا من أخذ جرعة المخدر اللحظية المُسَكِّنة والتي سرعان ما تنتهي لنجد ألما طويلا مستمرا لا ينتهي أيضا إلا بمخاض آخر تكاليفه أشد وأقسى! سل الذين مَكَّنوا لعبد الناصر في مصر حين لم يواجههوه أول أمره: دماء من حقنتم؟! وهل كانت مواجهة عبد الناصر قبل أن يستبد ستؤدي مهما بلغت تكاليفها إلى هذه النكبة التي نحياها ستين سنة؟! نشر في واحدةٌ من أهم أسباب وظواهر ضعفنا الحضاري انقطاعُنا عن تراثنا الحضاري الثري، ولذلك فكثيرا ما يندهشون الباحثون في التاريخ والحضارة الإسلامية حين يصادفون أمورا كانوا يظنون أن الحضارة الإسلامية لم تعرفها أو تكتب عنها شيئا! في هذه السطور القادمة إشارات واقتباسات في أمر الصحة والعلل والأمراض من تراثنا الحضاري العريق، في مسألة تلوث الهواء وآثاره على الصحة العامة: 1. ومنذ أوائل القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي كان ابن سينا —وهو أشهر من أن يُعرَّف- يقسم التلوث إلى نوعين: تلوث طبيعي أو عادي أو بسيط، وتلوث خارج العادة وفوق الطبيعي، وهو التقسيم الذي لا يزال معتمدا في علم البيئة المعاصر. فهذا الهواء الفاضل نقي صافٍ لا يخالطه بخار بطائح وآجام وخنادق وأرضين نزه ومباقل، وخصوصًا ما يكون فيه مثل الكرنب والجرجير وأشجار خبيثة الجوهر مثل الجوز والشوحط والتين وأرياح عفنة، ومع ذلك يكون بحيث لا يحتبس عنه الرياح الفاضلة... ومن الإنجازات كذلك ما نراه في بيتي شعر في غاية الطرافة يعودان للطبيب العباسي هبة الله بن التلميذ —الذي عاش في القرن السادس الهجري وخدم لدى الخليفة العباسي المستضيئ بنور الله- يتحدث فيهما عن خطورة وقوع الذبابة على الجرح المفتوح، فيقول: لا تــحقرن عدوًّا لان جـانبـه... ولـو يكون قليل البطش والجلـد فللذبابـة في الجرح الممد يَدٌ... تنال مـا قصـرت عنه يد الأسـد 7. علي بن العباس المجوسي: الكامل في الصناعة الطبية ص4. علي بن العباس المجوسي: الكامل في الصناعة الطبية ص65. علي بن العباس المجوسي: الكامل في الصناعة الطبية ص64، 65 لا يتأتى التفصي: أي لا يمكن للإنسان الانفصال عنها. ابن رضوان المصري: رسالة في الحيلة في دفع مضار الأبدان بأرض مصر، تحقيق: د. رمزية الأطرقجي، مركز إحياء التراث العلمي العربي، جامعة بغداد، 1988، ص46. أي الماء والغذاء والعوامل النفسية. ابن رضوان المصري: رسالة في الحيلة في دفع مضار الأبدان بأرض مصر، ص46، 47. ظواعن: أي كثيرو التنقل. مذكرات الشيخ رفاعي طه 8 من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية كنت عضوا في طلائع الاتحاد الاشتراكي · كان الاتحاد الاشتراكي ينبي تنظيما أخطبوطيا يمنع الدولة من الانهيار لمئات السنين · كان خطاب السادات ضعيفا ومستكينا لكنه صار بالتدريج يجد له أنصارا بين الشعب! وهذه المعسكرات مختلطة بين الأولاد والبنات، لكن الأنشطة نفسها منفصلة حيث ينزل الذكور في مكان والإناث في مكان آخر. لم يبلغ الأمر كما كان في تركيا —مثلا- حيث يبيت الشباب والفتيات في مكان واحد. واستقر الوضع على هذا الشكل في المرحلة الابتدائية والمرحلة الإعدادية. وبموازاة هذا، كانت ثمة مسابقات في ذلك الزمن تسمى مسابقات أوائل الطلاب، وكان يتسابق فيها الطلاب الخمس الأوائل الذين هم بطبيعة الحال أعضاء البراعم والطلائع في الاتحاد الاشتراكي، وفيها يتعارف ويتنافس أولئك الطلاب الذين يجري إعدادهم ليكونوا نخبة الدولة. وللحق، فلقد كان الاتحاد الاشتراكي يعمل جيدا على هذا الملف، فحين يستخلص من كل فصل —لا من كل مدرسة- أفضل خمسة طلاب فيه، ثم يتعهدهم بالتكوين والإعداد والدعم، ثم يفتح لهم بعد التخرج أبواب الوظائف المهمة في مناصب الدولة.. فعندئذ فإن النخبة الجديدة الحاكمة ستكون قد جرى إعدادها وتربيتها منذ أول النشأة، وسيكونون قد تعارفوا عبر هذه السنين من خلال اللقاءات الدورية والمعسكرات والمسابقات، هنا سيكون الناتج نخبة حاكمة ذات نظام أخطبوطي يضمن للدولة أن تستمر على هذا لمئات السنين دون أن تنهار. وبهذا أستطيع أن أُجْمِلَ صورة أيامي في المرحلة الثانوية في هذه المسارات: الصوفية، وزعامة المدرسة ونشاطها الطلابي، وعضويتي في طلائع الاتحاد الاشتراكي، والاستدعاءات المتتالية لقسم الشرطة وحديثي المتكرر مع ضابط المباحث الذي كان يحرص على أن يكون حديثه وديا وأخويا وفي مكان غير المدرسة أو قسم الشرطة. وأما المشهد العام في تلك المرحلة فأول ما فيها أني لم أعِ جيدا حرب الاستنزاف، ربما لكوني وقتها في السنة الثالثة الإعدادية أو لأننا لم نكن نشعر بها، كذلك لم يشغلنا كثيرا مبادرة روجرز سنة 1969 في أواخر حكم عبد الناصر والتي كانت قبل وفاته بشهور، إلا أن الحدث الذي لا يُنسى من تلك الفترة هو استشهاد الفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان، وكان ذلك في مارس 1969، فقد كان لهذه الحادثة تأثير ضخم، وكان له جنازة حافلة مهيبة حظيت بتغطية إعلامية كبيرة وحضرها جمال عبد الناصر وبكى فيها، وقد أخرجونا نحن —طلابَ المدارس- في مظاهرات وجنازات رمزية. كذلك فقد نفذت القوات الإسرائيلية عدة ضربات في العمق المصري، ومن أشهر هذا قصف مدرسة بحر البقر التي استشهد فيها عدد من الأطفال في مدرستهم، وعندنا في جنوب مصر وقع قصف أيضا لكوبري جسر إدفو في أسوان، وكان هذا الجسر يبعد عن مدرستنا كيلو مترا واحدا فقط، وقد ذهبنا إلى هنا ورأينا آثار القصف والقنبلة وما أحدثته من دمار. وهنا بدأ ينتشر في مصر نظام المدارس العسكرية، وكان يجري تدريبنا عسكريا في المدرسة، كما انتشرت التعليمات ببناء جدران أمام المداخل والأبواب، وخصوصا أبواب المدارس بعرض 3 أمتار وارتفاع 3 أمتار أيضا، وكانت لا شك مهمة باهظة التكاليف، ولم أكن أدري حينها لماذا يبنون هذه الجدران؟ كذلك فقد تم تحديد عدد من الأماكن بمثابة المخابئ والملاجئ التي ينبغي على الناس الذهاب إليها وقت حدوث الغارات. لم يكن الشعب يخشى الحرب مع إسرائيل، بل كان يفور حماسة حقيقية، وكان مشحونا بأثر القوة الإعلامية المتواصلة، وفي الواقع لقد صنعت هذه القوة الإعلامية من جمال عبد الناصر زعيما حقيقيا، وإذ كان يحتكرها وليس ثمة صوت غيره فقد مَكَّنَتْه بحق من أن يكون محبوب الجماهير، ولقد رأيتُ أبي يبكي بكاء حقيقيا يوم إعلان عبد الناصر تنحيه، ورأيته يبكي مثل ذلك يوم وفاته، ولم يكن أبي إلا رجلا بسيطا فلم يكن مؤدلجا ولا صاحب فكر وتوجه، إنما هو كعموم الناس، ومع هذا فقد كان في غاية الانفعال والتأثر. بينما كان الأمر على العكس من هذا حين جاء السادات، لقد بدا السادات ضعيفا مهزوزا لا يستطيع أن يكرر زعامة عبد الناصر القوية ولا أن يملأ ثوبه المهيب، خصوصا في السنوات الثلاث الأولى 1970 — 1973م حتى قامت الحرب. ولم يكن الناس يرونه صالحا ليكون رئيسا للجمهورية، وعلى ما يبدو فإن طاقم الرجال الذين أداروا هذا الملف تعمدوا توصيل هذه الصورة عنه، وإن كنا عرفنا فيما بعد أنها لم تكن صورة صحيحة، وأنه تعمد أن يكون بهذا المظهر الضعيف ليعالج بها معاركه الداخلية في أروقة الدولة التي يتنفذ فيها رجال عبد الناصر الأقوياء. كان عبد الناصر يخطب بقوة وعنده ذلك الحس الجماهيري الذي يجذب به الأسماع والأنظار فيؤثر فيها، بينما كان خطاب السادات هادئا مستكينا، تكثر فيه اللهجة العاطفية ولغة القرية، يتحدث كثيرا بالعامية. لكن الذي يلفت النظر هنا أن هذه اللهجة في الخطاب بدأت بالتدريج تجذب بعض الناس وتجد لها أنصارا، كان السادات ضمن هذه الصورة الهادئة المستكينة يتحدث عن مبادرات سياسية تتجنب دخول الحرب على العكس من موقف وسياسة عبد الناصر التي تتوعد إسرائيل ، فقد حاول البناء على مبادرة روجز ووافق على مدِّ الهدنة ووقف إطلال النار، ثم طرح مبادرة عام 1971م، وكان يبرر هذا بأنه إنما يفعله ليحافظ على أبنائه لأقصى درجة وليحافظ على البلاد ويجنبها متاهات الحرب. وقد وجد هذا النوع من الخطاب أنصارا وبدأ يتشقق الموقف في المجتمع المصري من خوض حرب التحرير مع إسرائيل، فخصوصا كبار السن كانوا يقدرون هذا الشعور الأبوي ويتعاطفون مع السادات، ويتحدثون عن الحرب التي لا تأتي بالخير. فيما بعد عرفنا أن هذه اللهجة نفسها كانت من وسائل السادات التي استعملها لإيهام إسرائيل بأننا لن ندخل الحرب أبدا. فيما قبل الحرب لم تكن الجماهير مع السادات أو ضده، حتى ما سماه ثورة التصحيح مايو 1971م والتي أقصى فيها رجال عبد الناصر لم يتعامل معها الشعب بالحفاوة أو بالإنكار، كأن هؤلاء المغلوبين لقوا جزاء طبيعيا، فحيث لم يكونوا من اختيار الشعب فليس للشعب منهم موقف، ولعل قائلهم يقول أيضا: وحيث كانوا من رجال عبد الناصر وقد رحل كبيرهم فلا تثريب أن يرحلوا مثله، ثم لم يكن منهم أحد معروفا بزعامة ولا له في قلوب الناس مكانة. ولو شئنا أن نقول إلى أي الجانبين كان الشعب يميل فسنقول بوضوح: إلى جانب السادات، ولعلها كانت عند بعض الناس من حسناته ومن بشائر عهده. إلى هنا تنتهي المرحلة الثانوية، ليبدأ الحديث عن المرحلة الأكبر والأخطر: مرحلة الجامعة.. نشر في دفعت كثير من العوامل السياسية والتاريخية والعلمية لتشويه فترة الحكم العثماني للبلاد العربية، من أهمها بزوغ فكرة القومية ثم فكرة الوطنية وهيمنتها السياسية على العالم الإسلامي والتي امتدت حتى وقتنا هذا، وفي إطار هذه الهيمنة كان لا بد من إنتاج التاريخ القومي والوطني الذي يُعَرِّف القومية والوطنية بحدود جغرافية ومفاهيم عرقية تمارس تعريفا وتصنيفا جديدا للواقع وللتاريخ كذلك. وكانت الفترة العثمانية هي ضحية هذه الهيمنة إذ نُظِر إليها على أنها احتلال أجنبي، ونُظِر إلى الخروج من نفوذها على أنه لحظة استقلال قومي ووطني تستحق الاحتفاء، ومن ثم كان لا بد من دعم وصناعة الرواية التاريخية التي تشوه فترة الحكم العثماني في إطار تدعيم وترسيخ الحكم القومي والوطني. فالمعنى القومي نفسه لم يكن موجودا كمفهوم فضلا عن وجوده كمعيار تصنيفي. والواقع أن الحديث عن احتلال تركي في هذه الأيام هو حديث مدفوع بأغراض السياسة أكثر بكثير مما هو مدفوع بحقائق التاريخ. إذ لا يمكن بحال تصنيف الحكم العثماني تحت عنوان الاحتلال الأجنبي التوسعي الذي غزا البلاد العربية وتعامل معها كمستعمرات يستفيد من مواردها البشرية والاقتصادية لخدمة مشروعاته وأهدافه التسلطية، وهو الاحتلال الذي عرفته الدول العربية في فترات الاستعمار الغربي، ولم تكن العلاقة بين السلطنة العثمانية والولايات العربية علاقة المركز بالأطراف أو الدول المستعمِرة بمستعمراتها، وإنما كانت علاقة سلطة برعيتها، لا سيما وأن المفهوم القومي لم يتولد في التاريخ الإسلامي كما هو بالمعنى المعاصر، ولم يكن اختلاف الأعراق بين الفئة الحاكمة والشعوب التي تحكمها في التاريخ الإسلامي يعني وجود علاقة احتلالية استغلالية. نشر في لما عاد موسى عليه السلام إلى مصر ونزلت عليه الرسالة تَوَجَّه إلى فرعون، وما إن بدأ الحديث معه في الشأن العظيم: شأن الإله والرسالة حتى ترك فرعون ذلك كله، وتذكر شيئا واحدا: تذكر قتل موسى لرجل بالخطأ في شجارٍ قبل عشر سنوات!! ووصف هذا القتل الخطأ بالجريمة العظمى التي يستعظم أن يذكرها صراحة، قال وفعَلْتَ فَعْلَتَك التي فعَلْتَ وأنت من الكافرين؟. فرعون الذي يمارس القتل يوميا بلا حساب استنكر على موسى قتل رجل واحد بالخطأ وجعلها جريمة عظمى! فأثبت على نفسه الخطأ غير المقصود وأثبت على فرعون الظلم الذي يخاف منه البريء فكيف بالمخطيء غير العامد؟ لكن الذي يهمنا هنا الآن هو ذلك السلوك الفرعوني الذي يستبشع قتل رجل واحد بالخطأ بينما هو يمارس القتل بلا حساب ودون شعور بالأزمة! جهاز الإعلام الفرعوني لم يقل للناس: لنجتمع ونرى وننظر من الغالب! لا، بل وجَّه الناس في اتجاه وحيد: تأييد السحرة ضد موسى! ولما جاء الموقف المشهود الموعود، آمن السحرة أنفسهم لكن الناس الذين احتشدوا للمشاهدة لم يؤمنوا، لماذا؟ لأن فرعون اخترع في نفس اللحظة رواية جديدة تبناها الجهاز الإعلامي من فوره، هذه الرواية تقول: هذه مؤامرة على مصر، وعلى فرعون، مؤامرة دبَّر لها موسى الرئيس السري لتنظيم السحرة، ولكن الجهاز الأمني والعسكري للدولة المصرية العريقة سيتصدى لهم بالمرصاد لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم في جذوع النخل، ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى. وفي التو واللحظة، انقلب السحرة من رموز الوطن المنتظرين في المعركة المنتظرة، إلى رموز المؤامرة على الوطن، ثم إلى مسالخ التعذيب والتقطيع والصلب أمام الناس. وهكذا وقعت المعجزة نفسها أمام ثلاثة أصناف: السحرة فآمنوا، الناس المحتشدون فخافوا وسكتوا، عناصر الشرطة والجيش فتولَّوْا هم تعذيب السحرة وتقطيعهم!! لا ينبغي لأحد أن يستهين بأثر الطغيان القاهر على النفوس، هؤلاء الناس لم يجرؤوا على اتباع السحرة الذين احتشدوا لاتباعهم من البداية، وهؤلاء العناصر من الجيش والشرطة قد توحدوا مع الطاغية حتى أنهم عذبوا المؤمنين ولم يحاولوا التفكير في أن يؤمنوا بموسى بعدما رأوا هذه المعجزة الساطعة! في كل قصة فرعون الطويلة لم يذكر القرآن أحدا قد آمن من آل فرعون إلا رجلا واحدا، مؤمن آل فرعون، ومعه امرأة واحدة هي زوجة فرعون وبها ضرب الله مثلا للذين آمنوا، ليعلم الناس أن صاحب الإيمان الحق يستطيع أن يحقق الإيمان في أحلك أحلك الظروف، في بيت أكفر الناس وأطغاهم وأظلمهم. مناسبته أننا نعيش الآن قصة فرعون ذاتها لكننا لا نفهم ولا نتعظ!! قبل نحو أسبوعين أعلن جيش حفتر أنه اعتقل هشام عشماوي، ضابط الصاعقة المصري المنشق عن الجيش المصري، والمتهم بتنفيذ عمليات ضد أفراد هذا الجيش! حتى القنوات والصفحات المحسوبة على الثورة تعاملت مع هشام عشماوي على أنه إرهابي، فكان أحسنهم حالا من طالب بمحاكمة عادلة، وكان أكثرهم تفاؤلا —أو قل: بلاهة- من تساءل: هل ينهي القبض على عشماوي الإرهاب في مصر أم أن السيسي سيبحث عن ذريعة أخرى ليستمر في قبضته على مصر؟! لقد تعامل الفراعنة المعاصرون مع هشام نفس تعامل سيدهم القديم مع موسى، خرجوا يستبشعون ويستنكرون الدماء البريئة التي تسبب فيها مع أنهم يقتلون يوميا منذ ظهروا بلا حساب ولا شعور بالذنب، سواء في مصر أو في ليبيا، بل لقد سجلوا هم بأنفسهم أرقاما قياسية في المذابح التاريخ في مصر وفي شرق ليبيا! هذا مع أننا لو حسبنا وصدقنا كل ما اتهموه به لن نجد فيها قتلا لأحد من المدنيين بل كانت عملياته ضد المقاتلين المجرمين عناصر الأجهزة التي مارست المذابح في الناس وقتلت منهم الآلاف! هشام عشماوي نفسه ضابط صاعقة سابق بالجيش المصري، كان يملك أن يستمر في صفوف العسكر، يتمتع بامتيازاتهم وأموالهم ونفوذهم، ويكون له حق قتل أي مصري كما يشاء وهو آمن من العزل والمحاسبة.. كان يملك أن يكون أحد القتلة الأغنياء الأثرياء أصحاب النفوذ والجاه! كذلك فإنه لم يقعد في بيته ويعتزل الصراع، بل تحمل مسؤولية أن يقاوم إلى جوار المظلومين المقهورين المقتولين الذين كان يملك ببساطة أن يكون واحدا من قاتليهم والقاهرين عليهم.. ماذا ينبغي أن يكون تعامل أي كاره للظلم وللفراعنة مع شخصية كهشام عشماوي؟! المأساة الحقيقية، وهي مأساة مريرة بقدر ما هي مثيرة للضحك والسخرية، وغريبة بقدر ما هي مثيرة للاشمئزاز.. هي أولئك الذين كم هتفوا ونادوا وصاحوا على شرفاء الجيش الذين لا يرضون عما فعله السيسي.. أولئك هم الذين يتوافق خطابهم الآن مع خطاب السيسي على أن هشام عشماوي إرهابي! إذا لم يكن عشماوي واحدا من شرفاء الجيش الذي ناديتم عليهم.. فأين هم أولئك الشرفاء؟ وماذا تريدون منهم أن يفعلوا؟! هل تريدون شرفاء ساكتين خاملين يسمعون ويطيعون للسيسي؟! أم تريدونهم شرفاء يمتنعون عن القتل ثم يستسلمون للاعتقال والمحاكمات العسكرية بتهمة عصيان الأوامر العسكرية؟! أم تريدونهم شرفاء يعتزلون ويجلسون في بيوتهم ويتحولون إلى متفرجين على مشاهد القتل والذبح والاضطهاد يتمتعون بمعاش ومزايا العسكريين السابقين؟! ماذا يفعل شرفاء الجيش هؤلاء لكي يرضوا هذه الخطابات المخنثة التي تزعم أنها ثورية فيما هي في الحقيقة ضد كل فعل ثوري طبيعي فطري.. لقد قالها السيسي بنفسه، قارن بين أحمد المنسي وهشام عشماوي، وهما ضابطان تزاملا في سلاح الصاعقة، أحدهما وهو المنسي مات وهو في جيش السيسي ينفذ أوامره ويمارس القتل والذبح، والآخر وهو عشماوي انشق عن السيسي وجيشه فطورد وقوتل حتى وقع أسيرا!.. لماذا صار هذا رمزا للوطن وصار هذا عدوا له؟! ذلك هو خطاب فرعون.. والمصيبة كل المصيبة أن نكون نحن أيضا: جمهور فرعون!! رجلٌ طاردته سلطة العسكر في مصر، ثم اعتقلته سلطة حفتر في ليبيا.. هذا رجلٌ تشهد ظواهر الأمور على أنه في معركة الحق ضد الباطل، الباطل والشر اللذان يتجسدان في سلطة السيسي وحفتر! وهذا الخطاب الانهزامي المخنث الذي لا يتعامل مع عشماوي كبطل حقيقي ضحى بكل شيء بانتقاله من معسكر الغالبين الظالمين إلى معسكر المقهورين المقتولين، هذا الخطاب هو أحد أسوأ ما وقع للثورات العربية كلها، فبه اقتربت النخب الثورية من خطاب السلطة وبه ابتعدت وأبعدت الجماهير عن الطريق الوحيد الصحيح الفعال لأي تغيير.. وهذه الهزيمة على مستوى الخطاب والأفكار هي أسوأ الهزائم بحق لأنها تنزع الشرعية عن الثائرين المقاومين.. ثم لا تبقى مقاومة إلا أن نصرخ في الفضائيات صراخا مؤدبا مهذبا محسوبا أو نجري في أروقة المؤسسات الدولية مع إنفاق ملايين الدولارات ثم لا تسمن ولا تغني من جوع! ما هكذا كانت الثورات يوما.. ولم يسقط نظام بمجرد المجهود الإعلامي المعارض.. ولم تنجح قضية في أروقة محكمة دولية في إسقاط نظام أبدا.. فما هذا الذي نفعله بأنفسنا حين يتحول الخطاب الذي يفترض أنه ثوري ليكون هو نفسه ضد الثورة وضد الثوار؟!! كيف يكون المقتولون المقهورون المسحوقون المهاجرون الهاربون من القتل هم أنفسهم حائط صد ضد من حاول أن يعدل هذا الميزان فيضحي في سبيل ذلك بنفسه وماله وأهله.. وكيف بمن يضحي بكل امتيازات المال والنفوذ والجاه لينتقل من صف الغالبين القاهرين إلى الدفاع عن المغلوبين؟! ماذا صنع الأبطال الثوريون، رموز الكفاح والنضال عبر التاريخ، غير هذا؟!.. ماذا صنع جيفارا -مثلا- غير هذا؟! ماذا كان سيُقال عن شعب اغتصبت إرادته ونصبت له المذابح في الشوارع؟! كم كان سيُسَبُّ ويُطعن فيه وفي شرفه ونخوته وكرامته؟! بم كان سيوصف من الجبن والنذالة والذلة والضعف؟! ثم حين يتخذ الناس رد الفعل الطبيعي الفطري الذي يتخذه أي بشر ذو كرامة، يخرج من يطعن في هؤلاء ويؤكد على وصفهم الذي أطلقته عليهم نفس السلطة المجرمة القاتلة إرهابيون!! هل نحتاج كل هذا الكلام والتطويل للإقناع بما هو بديهي فطري طبيعي.. شعب ذُبِح فخرج منه من يقاوم ويحاول تعديل الميزان.. ولم يتوجه في عمله هذا إلا ضد أدوات السلطة المجرمة التي تنفذ القتل والتعذيب والإجرام؟! أين أولئك من القرآن الكريم ومن حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! بل أين أولئك من شعور البشر وفطرتهم واستجابتهم الطبيعية إذا أريد بهم الذل؟! بل أين أولئك من شعور الحيوانات التي تقاتل عن نفسها وعن صغارها وتدفع عن نفسها وعنهم الأذى بما استطاعت؟! هل حقا لو كنا في عهد نبي الله موسى كنا سنؤمن به رغم أنف فرعون؟ هل كانت ستقنعنا معجزاته أم سيرهبنا سيف الفرعون وإعلامه وعسكره وشرطته لكي نؤمن بفرعون ونكفر بالله، ونصدق رواية فرعون ذي العذاب الحاضر وننصرف عن نبي الله؟! هذا سؤال مرعب حقا لمن كان يؤمن بالله ويخشى على نفسه! ولئن كان الله قد أهلك فرعون وجنوده غرقا، فلقد كان هذا آخر إهلاك الله لأعدائه، فمن بعدها كلَّف الله عباده الصالحين بالجهاد والمجاهدة للطغاة والمجرمين الظالمين، وكلَّفهم بالعمل لإقامة الدين، فلا ينتظرنَّ أحدٌ نصرا ينزل من السماء على قوم لم يجاهدوا.. فكَّ الله أسر هشام عشماوي وأمثاله، وثبَّتهم وأيدهم، وصرف عنهم الشر والسوء.. وإنه والله لأولى بالتعاطف من خاشقجي، ولكن عزاؤنا أن موازين السماء غير موازين الأرض، وما هي إلا فترة من الزمن حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ثم يُنصب ميزان العدل الحق المبين، وحينها تُكشف الحجب ويظهر المستور، وترى مقامات الناس عند الله غير مقاماتهم في هذه الدنيا.. نشر في مذكرات الشيخ رفاعي طه 7 من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية قصة ثورة في المدرسة الثانوية · لهذا كان ضابط الأمن يكثر الجلوس معي، ولكنه لم يكتشف تنظيمنا المصغر · بدأت ثورة المدرسة بقطعة طباشير وانتهت بتكسير أدراج وهدم شُرفتين! سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: الحلقة الأولى: الحلقة الثانية: الحلقة الثالثة: الحلقة الرابعة: الحلقة الخامسة: الحلقة السادسة: بعد قصة التصوف هذه أعود الآن إلى خط الدراسة.. لست أتذكر الآن ما إن كان مجيئه هذا قبل أم بعد الاستدعاء الثاني لأمن الدولة، وأغلب الظن أن ذلك كان بعدها، لكنه جلس معي ثلاث مرات أو أربع، كانت واحدة منها بسبب يعود أيضا إلى زوجة ضابط المباحث: إكرام. كان الطلاب يلجؤون إلي لشهرتي بينهم لتفوقي ولطبيعة شخصيتي القيادية، ويتجاوزون رئيس اتحاد الطلاب نفسه، فإن كان ثمة شيء يطلبونه من المدرسة كنتُ أتولى الكلام فيه مع المدير والناظر، فإن استجابت إدارة المدرسة فبها ونعمت، وإلا حوَّلتُ طاقتي إلى تحريض الطلاب عليهم، وكنت أُحْسِن هذا، وقد وقعت الأزمة لأن هذه المُدَرِّسة كانت شديدة التبرج ومثيرة، وكان معنا في الفصل طالب تكرر رسوبه في الثانوية العامة حتى كان سنه أكبر منا جميعا، فلربما كان في العشرين من عمره، أي أنه قريب من عُمْر المُدَرِّسة نفسها، وكانت عيون المراهقين تنهب هذا التبرج حتى كان ذات يوم ألقى فيه هذا الطالب عليها خلسة قطعة من الطباشير، يمكن أن نعتبر هذا نوعا من التحرش أو نوعا من الإهانة والتحدي والمعاقبة أو كل ذلك معا، وكانت ردة فعلها بطبيعة الحال ساخطة، إذ صاحت فينا: من الذي فعل هذا؟! ويمكن أن نعتبر هذا خوفا من الطالب الكبير السن أو شهامة ومروءة كالتي يرى الطلاب أنها من الرجولة تجاه بعضهم ضد المدرسين الذين يُمَثِّلون السلطة داخل الفصول، بينما الطلاب هم ممثلوا الشعب والجماهير! ، وظلت تصيح بإصرار تريد معرفة الفاعل، وظل الطلاب ساكتين لا ينطقون، فخرجت من الفصل مسرعة إلى ناظر المدرسة الذي جاء هو الآخر مهرولا، وفي هرولته دفاع عن قِيَم المدرسة وانحياز لإدارتها كما فيها قلق مبعثه أن زوجها ضابط المباحث!.. فصاح بدوره يسأل عن الفاعل، فلم يجب أحد.. وظل هذا هو الموقف حتى انتهى اليوم وذهبنا إلى البيوت! تصورنا أن المشكلة قد انتهت على هذا، إلا أننا فوجئنا في اليوم التالي أننا قد أوقفنا في ساحة المدرسة ولم يُسمح لنا بالصعود إلى الفصل الدراسي، وعاد الناظر يسأل مجددا عن الفاعل الذي أهان مُدَرِّسَتَه، والطلاب من جهتهم يقولون: لا نعرف. فقال: إذن، لا دراسة، ولا صعود إلى الفصول، وعودوا إلى بيوتكم! غضب الطلاب واعترضوا ولكنهم في النهاية انصرفوا إلى البيوت ولم يبق إلا ثلاثة يتفاوضون مع الناظر على إنهاء هذا الأمر، وكنت من بينهم، وقد حاولنا مع الناظر وجادلناه خصوصا ونحن في السنة الثالثة الثانوية وهي سنة فارقة ومهمة في تحديد مصائرنا الدراسية، وقلت له: لا يمكن أن يُعاقَب الفصل كله بذنب طالب واحد. قال: أنتم تعرفون من فعل هذا ويجب أن تُخبروا به. قلنا: نحن لا نشي ببعضنا حتى ولو كنا نعرفه بالفعل وكان هذا ضد معنى الرجولة بيننا في ذلك الوقت ، فقال: ومع أني أعرفه لكنني لن أصفح عنكم ولن أرجعكم للدراسة إلا إذا اعترفتم أنتم به، فقلت له: إذن الموضوع متوقف عندك، حيث أنك تعرفه فلتعاقبه ولينته هذا الأمر، وطال بيننا الجدال وفشلنا في الوصول إلى نتيجة، فخرجنا من عنده لا إلى البيوت ولكن إلى فصل دراسي آخر كي لا تفوتنا الدراسة، ولم يعترض هو على ذلك. جاء الصباح التالي فتكرر نفس الموقف، لم يسمح لنا الناظر بالدخول إلى الفصل، ولكن هذه المرة لم يرجع الطلاب إلى بيوتهم بل بقينا في ساحة المدرسة، ثم عزمنا على أن نقسم أنفسنا ونتوزع على بقية الفصول فلا تفوتنا الدراسة، وبينما نحن ذلك إذ عملنا على تحريض الفصول الأخرى لتقف معنا بمقتضى معنى الرجولة نفسه الذي منعنا من الاعتراف على زميلنا، والذي يقتضي عليهم التضامن معنا ، وهم من ناحيتهم أبدوا استعدادا لهذا، ووصلنا إلى اتفاق مع بقية الزملاء أن بداية الأسبوع القادم سيكون فاصلا، إما أن يُسْمَح لفصلنا بالدخول أو أن تضرب المدرسة عن الدراسة، ولا مانع من تكسير المدرسة أيضا! وعند بداية الأسبوع سارعت إلى الناظر قبل بدء الطابور وقلت له: الطلاب اليوم مصرون على دخول الفصل، وكلهم أبناؤك والأفضل أن يدخلوا إلى فصلهم. فقال لي بحزم: لن يدخل أحد الفصل! قلت له: إن ثلاثة أيام من العقاب كافية وكل هؤلاء الطلبة هم أبناؤك حتى ولو أخطؤوا، وأنت بمثابة الأب لهم جميعا. فلم يُجْدِ كل هذا الكلام الحسن شيئا، وأصر على موقفه، فقلت له: إني أعلم أن الطلاب قد عزموا أمرهم وأنهم إن لم يدخلوا إلى الفصل اليوم فلن يدخل بقية الطلاب إلى فصولهم تضامنا معهم أيضا، فأبرق وأرعد وهددنا، فعدت مرة أخرى إلى الكلام اللين وأنه مثل الأب للجميع وأن الأمر لا يحتمل أن يستمر أكثر من ذلك. ولمرة أخرى لم ينفع هذا معه فقلت له في صيغة نصفها ودّ ونصفها تهديد: لقد قمت بما علي وأبلغتك بما يمكن أن يحدث إذا استمر هذا الوضع. توجس خيفة من هذا الوضع، ولكنه أصر على موقفه، فاتصل بجهاز الأمن. ومن جانبنا سارعنا بتوزيع أنفسنا على الفصول، فسارعت تلك الفصول للإضراب عن الدراسة ورفضوا أن يدخلوا إلى فصولهم، وفيما بعد اكتشف الصف الأول والثاني الثانوي أننا لم ندخل فعادوا من فصولهم بعد أن وصلوا إليها.. وبدأ التوتر يخيم على الموقف: المُدَرِّسون يحاولون سوق الطلاب إلى الفصول والطلاب يمتنعون، ثم انفجر الموقف حين أراد المُدَرِّس محمد سرور أن يستعمل القوة فصاح في الطلاب بعنف أن يدخلوا فردَّ عليه طالب طويل القامة قوي البنية واسمه عادل قائلا: هذا ليس من شأنك يا أستاذ سرور. وجُنَّ المدرس الذي لم يتعود أن يخاطبه أحد من طلابه هكذا، فصفعه على وجهه، وما كان هذا الصفع يليق أيضا على طالب يرى نفسه قد صار رجلا أمام زملائه، فكانت هذه هي نقطة انفجار الموقف. انفلت الأمر، وتشتت الطلاب الغاضبون في كل جهة، وصعدوا إلى الفصول التي لم تنتبه بعد لما حصل، وأخرجوا الطلاب، وألقوا بالأدراج من الطوابق العليا، وسرت الفوضى التي لم يكن أحد قادرا على إيقافها مع غضبة الطلاب، بل هدم بعضهم شُرفتين من شُرَف المدرسة، وبدأ آخرون بملاحقة المدرسين ولم ينج منهم إلا من أغلق على نفسه بابًا واختفى من المشهد. كان الأمر أشبه بثورة شعبية مصغرة يطارد الشعب فيها ممثلي السلطة في لحظة قوتهم وضعفها ويُهدمون رمز المؤسسة السلطوية التي تحكمهم، وهي في حالتنا هذه: المدرسة. وكان هؤلاء الطلاب، لظروفهم المعروفة سيطر الطلاب على المدرسة، ومطلبهم المعلن هو دخول فصلنا إلى صفه وانتظامه دراسيا، وعند هذه اللحظة حضر ضابط الأمن إلى المدرسة يحاول أن يفهم ما حدث، وفوجئ بهذا الوضع الجديد، فسارع إلى تهدئة الوضع وما إن استقر الأمر حتى دخل بنفسه إلى كل فصل وأخذ في سؤال الطلاب عن السبب والأزمة، فإذا به يسمع في كل فصل حادثة الطباشير وعقوبة المنع من الدراسة، ففهم أن الأمر لا يحمل معنى سياسيا وليس وراءه دافع من خارج المدرسة، فاتخذ لنفسه مهمة الوسيط بين الطلاب وبين إدارة المدرسة من أجل إنهاء الموقف. ساعتئذ كانت إدارة المدرسة قد وقعت في الحرج، لقد انفلت الموقف حتى تمرد الطلاب وكسروا بعض أجزائها وأصابوا المُدَرِّسين وكسروا هيبة الإدارة، فاستغاثوا بجهاز الأمن لتأديب الطلاب وجعل ما حدث عبرة لمن يعتبر فلا يزالون يهابون المدرسة وإدارتها، ولا يترددون في الطاعة ولا يفكرون في العصيان، ثم ها هو جهاز الأمن الذي استغاثوا به يتحول فجأة من موقع العصا والتأديب إلى موقع الذي يتوسط لحل المسألة وتهدئة الأمور!! إن الأمر لو استمر على هذا الحال فلن يبقى للمدرسة ولا ناظرها هيبة ولا طاعة، بل وسيسهل على الطلاب التمرد في كل وقت، طالما التمرد يحصد المكاسب ولا يجلب العقوبة!! لكن المأزق الأهم هنا أن أحدا منهم لا يملك أن يعارض رغبة جهاز الأمن الذي هو فوق كل جهاز، لقد صار الموقف معكوسا فبدلا من أن يكون الطلاب والأمن في المواجهة صارت المواجهة الآن بين إدارة المدرسة التي تريد أن تعاقب وجهاز الأمن الذي يريد حل الموضوع! أراد الناظر الخروج من الأزمة ببعض حفظ ماء الوجه فاشترط فصل بعض الطلاب، الذين هم الزعماء المحرضون كما قال، فلم يجد إلا الطلاب الذين بقوا وتفاوضوا معه، وكنت من بينهم بطبيعة الحال، إلا أن الأستاذ عيد الرافعي وقف معي وجادل عني وذكر كثيرا أنني لم أكن محرضا وإنما كنت وسيطا وإنما كان الطلاب يثقون بي ويُقَدِّمونني ولهذا كانوا يخبرونني عما ينوون فعله وكان دوري أن أخبر إدارة المدرسة وأحاول إنهاء الأمر لولا تعنت الناظر. وبعد مجهود وجدال استطاع أن يخرجني من بين الطلاب الذين سيقررون فصلهم. لكنهم وجدوا أن طالبا آخر من هؤلاء الخمسة هو ابن عمدة قرية قريبة، وكان الرجل كبيرا في قومه وصاحب نفوذ، ومسألة عقاب ابنه بالفصل من الدراسة قد يترتب عليه مشكلات فأخرجوه أيضا، وبقي طالبان أو ثلاثة لم يكن لهم ظهير فقرروا أن يفصلوهم من الدراسة. ما إن بلغنا الخبر، ونحن كنا في لحظة انتصار وما بالك بنفسية المنتصر؟ وما بالك بلحظة الرومانسية الثورية التي تعقب النصر؟! فما إن بلغنا الخبر حتى كان موقفنا جازما لا تردد فيه: لن نسمح بفصل أي طالب ولا حتى لساعة، ولو أُخرج طالب من فصله فلن تستقر المدرسة. من بعد هذه الحادثة كان ضابط أمن الدولة يكثر الجلوس معي، اعتبرني زعيما للطلاب ومحرضا لهم، وكان يريد أن يفهم كيف أفكر، وممن أستلهم آرائي، وما هي علاقاتي... ومن جهتي كنت أكرر دوما أني من أعضاء الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الاتحاد الاشتراكي العربي، وأني ابن البلد، ومن جيل الثورة، وأن لهذه الدولة والثورة الفضل علينا.. كنت أعرف أنه من الضروري إقناعه أننا شباب صغير وليس بيننا وبين الدولة شيء! كان يقتنع بما أقول، على الأقل: يُظهر لي هذا الاقتناع، وفي الواقع لم يكن لديه ما قد يشككه فيما أقول، بينما كنتُ بالفعل قد كونتُ جماعة من زملائي بدأت بأحد عشر طالبا، ثم زاد عددها في الصف الثالث الثانوي إلى ثمانية عشر طالبا، كما كنتُ قد ذكرتُ سابقا. ولكن الجديد الذي يجب قوله هنا ونحن في الصف الثالث الثانوي هو ذلك العهد الذي قطعناه على أنفسنا: أن ندخل جميعا الكلية الحربية! كان هذا العهد فرع عن تصورنا الذي ذكرته من التفكير في انقلاب عسكري لإقامة الدولة الإسلامية، ودخول الكلية الحربية هو الخطوة الأولى منها، وتعاهدنا على ذلك والتزمنا سريته، وقد التزم الجميع بهذا العهد، وعند انتهاء الصف الثالث الثانوي قدموا جميعا أوراقهم إلى الكلية الحربية، لكن حصل ما لم نحسب له حسابا: لم يقبل من هؤلاء جميعا إلا طالب واحد فقط! ومع ذلك فقد بقيت لنا صلة به، وكان يتابع معنا حتى أصبح ضابطا وحصل على رتبة ملازم أول، وحينها بدأ يتغير ويتخلص من هذا العهد الذي قطعناه معا قديما، كان يتعذر بأننا تأخرنا في الدراسة المدنية، وهذا صحيح وإن لم يكن عذرا، فقد توزعت مجموعتنا بين كليات الطب والهندسة والتجارة والعلوم، دخلتُ كلية التجارة وتأخرت فيها لظروف سأقصها فيما بعد، ومن دخلوا كلية الطب كانوا ينهون دراستهم بعد سبع سنوات، ومن دخلوا كلية الهندسة ينهون دراستهم بعد خمس سنوات، وهذا الذي قُبِل في الكلية الحربية كان يُفترض به أن يدخل كلية العلوم إلى جوار آخر من مجموعتنا، اسمه أحمد سالم، دخل العلوم بعدما لم يُقبل في الكلية الحربية وتدرج فيها حتى صار أستاذا، وأحسب أن هذا الذي دخل الكلية الحربية لا يزال في صفوف القوات المسلحة وإن كانت قد انقطعت علاقته بنا من ذلك الوقت البعيد. غلب على هذه المجموعة الاتجاه الوطني وليس الإسلامي، وقد حصل لنا تحول آخر حين دخلنا الجامعة، إذ بقي الأغلب ضمن هذا الاتجاه الوطني ولم يتحول إلى الاتجاه الإسلامي سواي وآخرٌ معي. لكن لهذا حديث آخر.. ويجب أن يكون قبله حديثٌ عن انضمامي لصفوف الطلائع في الاتحاد الاشتراكي. فلئن كان الإنجليزي يسمع ويطيع لحكومة هو انتخبها واختارها وهي تجعله في عافية ورفاهية وتؤمن له مستقبله ومستقبلا لأولاده، فما هي حجة وعذر من يفعلها من أبناء البلد المحتل؟!! ما هي حجة فلسطيني يفعلها خدمة للإنجليز؟ أو جزائري خدمة للفرنسيين؟ أو مغربي خدمة للإسبان؟!.. وأيضا: ما هي حجة أي إنسان يفعلها خدمة لنظام جاء بالقهر والعنف والدبابة ومن ورائه جاء برغبة النفوذ الأجنبي المهيمن على بلادنا؟.. ثم ما هي حجة أي إنسان يفعلها وهذا النظام لا يُؤَمِّن له ولا لأبنائه طعاما نظيفا ولا تعليما مفيدا ولا طبا صحيحا ولا حياة طبيعية؟! لا يخلو الأمر من مكاسب يتمتع بها الخونة على سائر الناس لكن مجرد المكاسب لا تفسر وحدها هذا الإخلاص وتلك الوحشية أو: الكفاءة في خدمة النظام المحتل أو النظام المستبد. لم يعد أولئك الذين يفعلون هذا يرون أنهم يخونون أو يظلمون، بل صاروا يحسبون أنهم يقومون بالواجب الوطني.. ومنهم من تفانى فيه حتى أهلك نفسه، وهو مقبل غير مدبر!! خليل حسن خليل في مذكراته الروائية، وقد سُجِن في عهد عبد الناصر من بعد ما كان يعطي المحاضرات لعناصر الاتحاد الاشتراكي بل ومن بعد ما كان منتدبا للعمل في رئاسة الجمهورية، فسجل حوارا بينه وبين ضابط السجن الذي كان تلميذا له من قبل، سأله: - هل تشترك في تعذيب المعتقلين؟ بهت الضابط عند سماع السؤال. ثم قال بصوت لا انفعال فيه ولا حسرة: - طبعا! التلميذ النجيب، ابن صديقي الحميم. لقد رباك أبوك تربية مهذبة طيبة. ثم تلاشى تماما حينما وضعوا النجمة على كتفي! أعطي للمريض الجرعة والحقن دون زيادة أو نقصان. إنما لأنك أستاذي، وكنت تعطيني دروسا خصوصية بالمنزل مجانية، بحكم صداقتك لوالدي، سأقول لك: التعذيب يثير في الإنسان غريزة غريبة. فبعض المعذبين يتشفى في المعتقل وكأنه عدوه، وكلما ألهب ظهره أو نفخ أحشاءه، كلما تملكته هذه الغريزة الحيوانية، وكلما اقترب من حرفة الجزارة! بفارق واحد، أن الخروف أو العجل يذبح ثم لا يحس بتقطيع أعضائه. وتبلغ الوحشية ذروتها، إذا بدت من المعتقل إشارة أو احتجاج أو تأفف. هناك يعتبر المعذب أنه أهين إهانة شخصية! لحقت بكرامته وعظمته وعظمة أسرته. فيتملكه سعار بربري، يصب أواره على المعتقل، وقد نفق كثير من المعتقلين بهذه الطريقة! فما أكملت لحظة حتى عرفت أن المهمة ثقيلة والأسماء طويلة وكثيرة.. لقد صار الظلم والخيانة مؤسسة وجهازا ودولة، منذ عهد الطاغية الجبار محمد علي، حتى صارت وظائف كالشرطة والعسكر والقضاء والمخابرات والإعلام هي بنفسها معاقل لتفريخ وإنتاج وتصنيع الخيانة والعمالة للاحتلال الأجنبي والاستبداد الداخلي.. حتى إن النادر القليل منهم مَنْ لم يتلوث بالمشاركة في هذه الأوحال! وأندر منهم من استقال من تلك المؤسسات فنجا بنفسه، وأندر من كل هؤلاء من فكر في المقاومة والإصلاح.. ذلك أن هذه الدولة وهذه المؤسسات جعلت الخيانة والعمالة والتعذيب والتزوير والبشاعة مدرسة فكرية، وجهة نظر، فلسفة ومنهجا، دينا متبوعا.. لقد أنتجت هذه الدولة ومؤسساتها عقيدتها التي جعلت كل هذا ينتقل من معنى الخيانة والعمالة والظلم إلى معنى الواجب الوطني والنظام والشرف! صارت مهمة ثقيلة طويلة أن نتتبع أسماء من قبضوا على الوطنيين ومن حققوا معهم ومن حاكموهم ومن عذبوهم ومن شوهوا صورتهم بالأشعار والأغاني والمقالات.. قائمة لا تكاد تحصى ولا تُحصر ولا تنتهي.. وإن بعض العزاء أن التاريخ يصحح سيرته بعد سنين طويلة، كما قد أبقي اسم عرابي علما على الثورة والجهاد، وأبقى اسم الخديوي توفيق علما على الخيانة والعمالة! ولقد ضرب الله مثلا بكلماته وله المثل الأعلى فأخبرنا أن الآية نفسها يضل بها كثيرا ويهدي بها كثيرا، وأن القرآن ينزل على بعض الناس هداية ويزيد الآخرين كفرا وفجورا. وما ذلك إلا لأن البعض نظر فيها يطلب منها الهداية والآخر نظر فيها يبحث عن مواضع الجدل ويلتمس النقص والعيب وإثارة الشبهات. في لحظة كتابة هذه السطور تشن حرب محلية على أبسط مظاهر الدين، أغلقت السلطات في موريتانيا جمعية تكوين العلماء التي أنشأها الشيخ محمد الحسن ولد الددو، وهي جمعية تخرج من يتأصلون علميا بحفظ القرآن والسنة ومتون العلم، وبعدها بساعات صدر قرار من الحكومة الليبية التي لم يستقر لها قرار ولا تملك توفير رواتب للناس بعدم استقبال طلاب الابتدائي لمدراس التعليم الديني، وقبل ذلك عصف محمد بن سلمان بسائر الأنشطة العلمية والدعوية في مساجد بلاد الحرمين.. وأنى نظرت إلى بلد رأيت مثل هذا أو شيئا منه. هذه الغارات العنيفة يقوم بها من يقولون بأنهم مسلمون، تحت عنوان مكافحة الإرهاب والتطرف، هذا مع أن سائر هذه الأنشطة والمؤسسات تبتعد تماما عن كل ما قد يثير حساسية الأنظمة والحكومات وأوليائهم، بل هي لم تنشأ أصلا إلا بموافقات وتصاريح أمنية ولم تمارس عملها إلا برقابة وتشديدات أمنية أيضا، أي أنها أبعد ما تكون عن هذه التهمة. وعندئذ لا يبقى لنا إلا تفسير من اثنين: إما أن هؤلاء القوم تذكر دائما أنهم منتسبون للإسلام يرون القرآن نفسه كتاب تطرف وإرهاب، وأنه مادة يجب مطاردتها وملاحقة تدريسها وتحفيظها. أو أنهم لا يفكرون في هذا أصلا وإنما يقومون بعملهم بكفاءة كما أُمِروا به، وطالما أنهم يقومون بوظيفتهم بكفاءة فلا معنى لأن يفكروا في شيء، ومن كان ينوي التفكير فليؤجله إلى لحظة سن المعاش كي يتعاطف مع من سجنهم وضربهم وآذاهم! إن حقيقة الصراع في كونه صراعا على السيادة، على المرجعية العليا، هل تكون لله أم لغير الله! وسيظل أهل العلم والدين والجهاد يتعرضون لإيذاء هذه الدولة مهما حاولوا الابتعاد عنها، فإنها تعرف أن عملهم في حقيقته هو تعظيم الدين ليكون مرجعية فوقها، ولتكون هي خاضعة له.. وهذا أمر لا يسمح به صاحب الباطل إلا مضطرا! وهذا هو حقيقة التحرر والتحرير، وحقيقة الإخلاص والتوحيد.. أن يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، وألا يكون أحد من الناس عبدا لنظام أو ملك أو رئيس أو وظيفة، يضطر معها إلى إلغاء عقله وتجميد ضميره لتنفيذ الأوامر بكل كفاءة!! أو يضطر معها للإيمان بأفكار رؤسائه وابتلاع كلامهم كي لا يعيش تعذيب الضمير وإلغاء العقل إذ ينفذ أوامرهم بكل كفاءة!! حقيقة التوحيد والتحرر ألا يصرف الإنسان طاعته إلا لله.. فهذا هو العزاء حقا.. وهذا هو شفاء الصدر حقا.. وتلك هي الطمأنينة حقا! فلله الحمد الذي جعل لعباده آخرة وحسابا وميزانا دقيقا، فلا يفلت منه عقوبته ظالم ولا من عدله ورحمته مظلوم. من هاهنا حاولت هذه الورقة رصد أزمة الفكر وتطور الفكر السياسي لحماس تحت إكراه الواقع المعقد داخليا وإقليميا ودوليا، واضطرت أن تعتمد على الوثائق والبيانات والكتابات المقربة من الحركة لتستخلص معالم هذه الأزمة وهذا التطور عبر السنوات العشر منذ ما بعد الحسم العسكري والانفراد بحكم غزة 2007م حتى 2017م عام صدور وثيقة المبادئ والسياسات العامة التي اعْتُبِرَتْ —بحق- تعديلا على ميثاق حماس الأول 1988م وهو أيضا عام آخر المحاولات الجادة في الوصول إلى مصالحة تُسَلِّم فيها حماس حكم غزة لسلطة محمود عباس. وسعيا لبيان ملامح هذه المسيرة قُسِّمت الورقة إلى ثلاث محاور؛ الأول: عن إكراهات الواقع المفروض على حماس في التنظير والتطبيق وهو ما أنتج تجربة تزاوجت فيها الثورية اللائقة بحركة تحرر والمحافظة اللائقة بحركة محاصرة تحت ضغوط كبرى، فكان المحور الثاني عن الجانب المحافظ من تجربة حماس، والمحور الثالث عن الجانب الثوري من تجربة حماس. وهذه القسمة هي برأيي القادرة على بيان مناطق الثبات والتطور في التجربة لتكون كاشفة عن نتائج التدافع بين رغبة التحرر وضغط الواقع. ومن نافلة القول أن هذه الورقة كُتِبت لا بغرض الثناء على حماس ولا بغرض الهجوم عليها، وكاتبها لا يتردد في الإعلان عن حبه واعتزازه وفخاره بحركة حماس كواحدة من حركات المقاومة والتحرر الإسلامية، ولكونها أنضج الحركات التي جمعت بين السياسة والقتال، ومع هذا فإن ما في هذه الورقة من الثناء لم يفارق الموضوعية المقصودة والمطلوبة من أي ورقة علمية، وليس فيها من الانتقاد إلا ما هو مقصود ومطلوب بغرض الاستفادة والنصح والتقويم، وفيها أيضا من حسن الظن والتماس الأعذار ما هو خليق أن يُقدَّم في شأن المجاهدين. حماس غزة: صورة مصغرة مكثفة لتحديات إنتاج تجربة إسلامية على نحوٍ ما، يبدو أن مشكلات الأمة الكبرى العامة تُخْتَصر في واقع الأزمة التي تعرضت لها حماس إثر توليها مسؤولية الحكم 2006م ، فلو حاولنا استعراض مشكلات الأمة الكبرى سنجد أنها خمسة، تلك هي: 1. وفي حالة غزة تبدو نفس هذه الأزمة على المقياس المصغر، إذ الفارق ضخم بين القوة الإسرائيلية العسكرية وقدراتها الأمنية وبين فصائل المقاومة، وهو ما يتيح لها القدرة على إحداث دمار واسع تضغط به على المقاتل وعلى المُفاوِض أيضا في حال إرادة الوصول لإنهاء الحرب. إلا أن الحالة الغزاوية تشهد بعض المزايا مثل: قدرة حماس على ضرب شبكات أمنية مؤثرة للاحتلال داخل غزة، وعلى إنهاء الوجود الفتحاوي الذي يمثل الإسناد الأرضي المناظر للقوات العراقية الحكومية وقوات التحالف الشمالي الأفغاني وقوات نظام الأسد، مما يجعل المهمة الأرضية موكولة إلى جنود الاحتلال الذي هو شديد الحساسية والحرص على طاقته البشرية. الاستبداد الداخلي والذي تمارسه النظم المحلية الوظيفية المسنودة بالاحتلال الأجنبي، والتي يمثل مجرد وجودها أحد أكبر التحديات لأي حركة مقاومة، ذلك أن مواجهة عدو أجنبي محتل أسهل على سائر المستويات —إلا العسكري- من مواجهة طرف من نفس الشعب ويتمتع بجذور سياسية وحواضن اجتماعية وخبرة محلية، فضلا عما يضفيه عليه الإسناد الخارجي من شرعية قانونية وحضور دولي وإمكانيات مالية ودعم مالي. وفي الحالة الغزاوية ينتصب نموذج السلطة الفلسطينية كحالة مثالية للسلطة التي ترفع عن المحتل الأجنبي عبء إدارة الشؤون اليومية وتسخر مجهوداتها الأمنية ونفوذها السياسي لصالحه، وهي واحدة من أنجح تجارب التوظيف الاحتلالي لفئة محلية ضد حركات المقاومة. الموقع الجغرافي الخطير، وذلك أن الأمة تتمدد جغرافيا في قلب العالم، حتى ليمكن القول بأنه ما من أمة في هذا العالم تستطيع إنشاء سياسة أو تجارة أو أي نوع علاقة مع أمة أخرى إلا واحتاجت إلى إذن الأمة المسلمة، وهذا الاتصال الجغرافي للأمة والممتد من أقصي الشرق حتى أقصى الغرب بقدر ما هو قوة عظمى للأمة في حال قوتها، بقدر ما هو نفسه أزمة مرهقة وخطيرة في حال ضعفها، وتلك أقدار الله التي تحتم على الأمة دائما أن تسعى للنهوض والقوة، فالموقع الحساس إما أن يكون مصدر القوة أو أن يكون مسرح صراع الأقوياء من حوله ونقطة جذب لأطماعهم، وهذا هو قدر الأمة، وهو بالذات قدر قلبها المصغر الذي يشمل الشام والعراق ومصر وتركيا. سيادة نمط الدولة الحديثة، وهو النمط الذي أنتجته الحضارة الغربية المعاصرة وبَنَتْ عليه نظامها الدولي، وخلاصته أن أحلَّ الدولة محل الإله، فالدولة هي المرجعية وهي صاحبة السيادة وهي المتصرفة في سائر الأنشطة الإنسانية ضمن البقعة الجغرافية التي تهيمن عليها، وسائر أوجه النشاط المجتمعي إنما هو محكوم بما تسمح به السلطة، فالمجتمع على الحقيقة أسير أمام الدولة التي لم تعد مجرد سلطة سياسية ذات قوة عسكرية وأمنية، بل صارت جهازا ضخما يدير ويتحكم في كل التفاصيل. وأسوأ ما في هذا النمط هو تعطيله الفاعلية الذاتية الشعبية بمصادرة مساحات حركة المجتمع، فحتى معلم المدرسة أو خطيب الجامع صار يحتاج تصريحا من الدولة لممارسة هذه المهمة، بل صار محتاجا إلى ورقة رسمية تعترف له بأنه معلم أو خطيب! تلك هي المحنة الكبرى والنازلة العظمى على المستوى النظري والعملي، أي على مستوى إنتاج الاجتهاد الإسلامي الأصيل الرشيد، وعلى مستوى المقاومة الإسلامية التي صارت كأنها في قضية تحررها ضد نظام العالم كله. تبدو مشكلة الأمة هذه متمثلة في غزة أيضا، فلقد استطاع نمط الحداثة هذا أن يجعل غزة تحمل مسؤوليات الحكم كأنما هي في دولة تتحمل فيها مسؤولية إدارة سائر التفاصيل، هذا مع أنها مُحاصَرة بنفس نظام الدول الحديثة الذي يمنع اتصالها بطاقة الأمة بل يجعل طاقات الأمة كلها محاصَرة ومعزولة وممنوعة من التواصل والإمداد لطاقة الغزيين، فبقدر ما تحملت المقاومة عبء إدارة دولة حديثة طبقا لمفهوم الدولة الحديثة بقدر ما مُنِعت من وسائل الحياة طبقا لنفس هذا المفهوم، وقد وجدت حماس نفسها أمام المعضلتين معا: معضلة أنها تتولى إدارة قطاع متكدس بالبشر وهو عبء داخلي وهو محاصر معزول وهو عبء خارجي. لا يمكن مطالبة حماس بإنتاج اجتهاد إسلامي لنازلة الدولة الحديثة، التي هي النازلة العامة التي اضطربت فيه آراء الإسلاميين من أقصى اليمين هدم الدولة الحديثة ومن ورائها النظام العالمي إلى أقصى اليسار الذوبان فيها واعتبارها حتى بوضعها الحالي غاية إسلامية ، والغالب أن همّ مقاومة الاحتلال وتثبيت المكاسب الأمنية والعسكرية لم يتح أصلا فرصة طرح هذا التوجه الفكري على مائدة البحث في أي وقت. لكن حماس عمليا بين اختياريْن، وإن لم يكن أمامها الوقت ولا الإمكانية لبحث المسألة في صورتها النظرية، وهما: أن تكون سلطة رشيدة ضمن مفهوم الدولة الحديثة أم تكون قيادة مقاومة ضمن مفهوم ما قبل الحداثة أو تصورات ما بعدها. وكل هذا ينعكس بقوة على طبيعة وحدود العلاقة بين السلطة والشعب ووظائف كل منهما. افتقاد التنظير السياسي الإسلامي المعاصر، والانقطاع الكبير في هذا الباب نتيجة لغياب نظام الخلافة من جهة وانحدار شأن العلماء في المجتمعات الإسلامية من جهة أخرى، وبهذين الأمرين صار أمر الاجتهاد المعاصر محتاجا إلى فقهاء يعرفون علم الشرع وعلم الواقع ولديهم القدرة على الاجتهاد الذي يحلون به معضلة لم تواجه القرون الأربعة العشر الماضية هذا فضلا عن أن الجهة المؤهلة للاجتهاد، وهم العلماء، إنما كانوا أهم المستهدفين بالإقصاء والعزل عن المجتمعات، مع تدمير مكانتهم الاجتماعية ومحاضنهم العلمية العريقة، حتى لقد جرى إقصاؤهم عن قضايا الأحوال الشخصية التي صار الحكم فيها إلى قانونيين ومحاكم وضعية، مما كان من آثاره أن يكثر فيهم أنفسهم الجاهلون بأبواب السياسة الشرعية وأن ينصرف الكلام في هذه الأبواب إلى غيرهم ممن لا يحسنها فيكثر فيها الاضطراب وهذا في حالة غزة أشد عسرا حيث تجتمع عليها العديد من النوازل في الوقت الواحد. تمثل كل مشكلة من تلك الخمس الكبرى في حد ذاتها تحديا ضخما أمام الأمة، ولهذا يمكن تصور كيف يتحول اجتماعها معا في منطقة جغرافية صغيرة كغزة إلى محنة عظيمة، كان على حركة حماس أن تتعامل معها، في لحظة لم تتوقعها أو تستعد لها. لا سيما وأن قرار حماس ينتج في الداخل والخارج، وهو محنة أخرى لها تأثيرات داخلية عميقة على الحركة نفسها، إذ مهما قيل في الانسجام بين حماس في غزة والضفة والخارج فلن يغير هذا من حقيقة أن الأوضاع المختلفة تنتج فروقا في الرؤية وأسلوب العمل. ومن أهم معالم خط القبول بالواقع: الموقف من سلطة فتح ومنظمة التحرير، والقبول بنمط الحداثة في إدارة قطاع غزة وفي التعامل مع الوضع الإقليمي والدولي، والحرص المبدئي على عدم فتح أي نزاع مع الدول العربية والتحمل التام للسياسات المضادة والمعادية من قبلها. ومن نافلة أن توزيع هذه المواقف ضمن خطي المقاومة أو القبول بالواقع هو باعتبار الغالب على الحال، وإلا فقد يقع في بعض المسائل وبعض الظروف ما يكون فيه نوع رضوخ كما في لهجة وثيقة المبادئ 1 مايو 2017م فليس يجعلنا هذا ننقل الموقف من الاحتلال من جانب الخط المقاوم إلى خط القبول بالواقع، وقد يقع حسم عسكري ينهي وجود سلطة فتح في غزة فليس يجعلنا هذا ننقل الموقف من سلطة فتح من جانب خط القبول بالواقع إلى خط المقاومة.. الرابع: حرص حماس على تقديم صورة مطمئنة للوضع الإقليمي والدولي لتجربتها في الحكم، وهو الحرص الذي رافق كل تجربة الحركات الإسلامية السياسية والناتج عن شدة التشويه والتفزيع من كل تجربة إسلامية. دفعت هذه الأسباب إلى تجربة حكمٍ محافظةٍ تَتَحَسَّس من التغيير ومواجهة الوضع السائد، وغاية ما ترجو أن تتمكن من إدارة الشأن الفلسطيني بأكبر قدر من التوافق والهدوء مع خصوم الداخل، وبأكبر قدر من التهدئة والطمأنة مع خصوم الخارج: 1. لم تسع حماس إلى إزاحة فتح أو غيرها من رفاق أو خصوم الدخل بل عملت جهدها على تكوين حكومات ائتلافية تتشارك في مهمة الحكم والإدارة منذ اللحظات الأولى 2. لم تحاول حماس هدم شرعية منظمة التحرير الفلسطينية بل كافة ما صدر عنها كان في إطار محاولات الإصلاح للمنظمة وتوسيعها 3. قدَّمت حماس خطابا سياسا يبتعد ما استطاع عن الإشكاليات الفكرية 4. لم تتزحزح حماس عن موقفها بعدم التدخل في شأن أي دولة ولو كان هذا التدخل يؤثر على مصالحها، وأوضح ما يبدو هذا في أنها فضَّلت أن تعاني أشد المعاناة من إغلاق معبر رفح دون أن تطور موقفا ضد النظام المصري الذي كان أهم الفاعلين في الحصار الخانق المفروض على غزة والمستمر منذ وصول حماس إلى الحكم وقد ظلت هذه السياسة تُثْقِل القرار السياسي لحماس حتى في أوقات الفرص الكبرى مثل الثورة المصرية وفترة الاضطراب والارتباك التي سادت ثلاث سنوات على الأقل، منذ مطلع 2011 إلى مطلع 2014، ونزعم أنه كان بالإمكان إذا تحررت حماس من هذه السياسة المحافظة أن تحقق في هذه السنوات الثلاث مكاسب نوعية في الملف الداخلي والخارجي، بل ونزعم أن لحظة الانقلاب العسكري في مصر كانت تساوي بالنسبة لها معركة وجودية تستدعي أن تتدخل فيها بثقلها. ومن الآثار السلبية لهذه السياسة هو تضخم الروح الوطنية القومية لحماس على حساب الروح الأممية والإسلامية، وهذا مما قد يُعَدُّ في الميزان السياسي المعاصر نوعا من الرشد والنضج، إلا أنه وفق تقييم يعتمد ميزان حركة التحرر الإسلامية يعد نوعا من التراجع والتأثر السلبي بمفردات الواقع الضاغطة وإكراهات الحالة السياسية كذلك فإن من الآثار السلبية لهذه السياسة أنه فيما يتعلق بالأنظمة العربية فقد ظلت حماس تتلقى الهجوم والضربات دون ردّ، وكان التقدير السياسي لحماس أن الدخول في معركة ولو إعلامية مع الأنظمة العربية يسرِّع من قطار التطبيع مع إسرائيل ويوفر الأجواء لهذه الأنظمة في شن الحملات عليها وعلى القضية الفلسطينية، ورأت أن هذه المعركة هي من مسؤولية الحركات السياسية والإسلامية العربية داخل هذه البلدان، وبالرغم من تحملها الضغط الهائل وضبط النفس إزاء ما يمارس ضدها في إعلام هذه القنوات إلا أن قطار التطبيع يمضي سائرا وتُشَنُّ الحملات الإعلامية الضارية ضد حماس بل والفلسطينيين وقضيتهم عموما لتمهد الطريق للتطبيع. ويرى الباحث أن الحركة لو اعتمدت سياسة الهجوم والفضح لهذه الأنظمة على الأقل فيما قبل موجة الثورات المضادة فإنه كان بالإمكان تحقيق نتائج أفضل ضد الأنظمة في تلك الفترة، وأن استفادة الأنظمة من سياسة حماس تجاهها جعلها تقدم على ما تريد باطمئنان، فهي قد استفادت من سكوت حماس وتثمينها لمواقف الأنظمة بأكثر مما استفادت حماس من هذه السياسة تجاه الأنظمة. ومن الآثار السلبية لهذه السياسة أن استطاع خطاب تيارات الغلو أن يجد له موقعا في نفوس عدد ليس بالقليل من أبناء غزة بل ومن أبناء حماس نفسها الجانب الثوري من تجربة حماس والمقصود بالجانب الثوري هو قدرة حماس على مقاومة ما يُفرض عليها من ضغوط تريد تغيير مواقفها المبدئية، أو ضغوط تريد استعمالها كورقة ضغط أو استقطابها كحليف يتبنى المواقف السياسية في ظرف ما، وتُبْدي حماس حتى الآن قدرة متميزة على أن تكون نفسها وألا تسقط في فخ الاستقطابات والمعادلات المتشكلة والمتقلبة في المنطقة العربية الساخنة. ولا يمنع من هذا أن يقع شيء هنا أو هناك مرة أو مرات، فذلك لا يغير من المسار العام. ومن أبرز المواقف الثورية في تجربة حماس عملية الحسم العسكري في قطاع غزة، والذي كان منعطفا تاريخيا في مسار القضية الفلسطينية، ذلك أنه حجر الأساس في تحويل قطاع غزة إلى قلعة منيعة للمقاومة، وما كان بالإمكان أن يتحقق شيء من الإنجاز العسكري الكبير إذا بقيت أجهزة الأمن الفتحاوية التي تمثل شبكات تجسس إسرائيلية متقدمة فضلا عن مجهودها الضخم في إجهاض العمل المقاوم. وأهم هذه المكاسب قاطبة هي تحول غزة الصغيرة المتكدسة إلى قلعة منيعة للمقاومة، تعجز إسرائيل عن اجتياحها عبر أربعة حروب كلٌّ منها أكبر وأخطر من سابقتها، وهي التي استطاعت اجتياح أربعة دول عربية ذات جيوش نظامية في ساعات وأيام عبر تاريخها منذ نشأت، وبهذا تكون غزة قد حققت في مواجهة إسرائيل ما لم يتحقق في تاريخ المقاومة العربية الصهيونية منذ بدايته، ولم يكن هذا ليتم لولا انفراد حركات المقاومة بالحكم في غزة وبناء أجهزتها وشبكاتها الأمنية وأجنحتها العسكرية وفق العقيدة القتالية الإسلامية. الخاتمة تقر أدبيات حماس منذ ميثاقها الأول 1988م وحتى لحظة كتابة هذه السطور أن حل القضية الفلسطينية هو مسؤولية لا ينفرد الفلسطينيون بحملها وإنما تقع أيضا على عاتق الأمة العربية والإسلامية كان حريا بهذا المسار أن يدفع حركة حماس إلى التخلي عن سياستها هذه، مهما كان هذا التخلي حذرا وتدريجيا وسريا، لتتمسك بفرصة الثورات العربية فتعمل ما في وسعها لدعم الساحتين المصرية والسورية على وجه التحديد، والمصرية على وجه أخص، وكان يجب ألا يُكتفى بالتعويل على جهود الإخوان فحسب لا سيما بعد أن أظهروا ضعفا وترددا غريبا في السيطرة على مقاليد الأمور، ثم كان يجب ألا يُستسلم تجاه وقوع الانقلاب العسكري في مصر باعتباره شأنا مصريا. وتعد المطالبة بمراجعة هذه السياسة هي الخلاصة الأساسية لهذه الورقة، إذ مهما أبدى الغزيون من البسالة والصمود فإنهم في هذا الضيق الجغرافي وتحت هذه الضغوط لا يملكون مفاتيح تغيير المشهد الذي يمكن له أن يتغير وينفتح على خيارات أخرى بتحول الأوضاع في القاهرة، مما يفرض على حركة المقاومة المعنية أن تفكر في هذا حتى لو لم تكن متضررة بشكل مباشر من سياسات النظام المصري، فكيف إذا كان الضرر الواقع عليها مباشرا وفادحا بل هو من أهم أولويات ومهمات ووظائف هذا النظام؟! وبعد هذه الخلاصة الأساسية يمكن تقديم بعض خلاصتين أخريين: 1. ضرورة توسيع المشاركة الشعبية في تحمل أعباء الإدارة والاستفادة من قوى الروابط الاجتماعية: العائلية والجغرافية والتشجيع المستمر للمبادرات الفردية والأفكار المبدعة، فمن شأن هذا كله أن يخفف من أعباء الإدارة عن كاهل الحركة، وهذا التوجه يتأسس على إدراك أن الحداثة ونمط الدولة المركزية ليس مناسبا في عالمنا العربي والإسلامي، على الأقل هو غير مناسب تحت سلطة احتلال أجنبي متفوق وفي وضع مختنق، ومن ثم فينبغي أن تتوجه الجهود الفكرية والعلمية في الجامعة والمحاضن التعليمية والتربوية نحو نشر وتوثيق النمط المجتمعي التكافلي الذي يطلق طاقة المجتمع ويخفف الأحمال عن السلطة. ينبغي لحماس ألا تتمسك بشرعيات مهترئة كما هو الحال في منظمة التحرير أو حتى شرعية السلطة الفلسطينية، فهذا ثقل إضافي يقيدها ويثقلها، بل ينبغي عليها هدم هذه الشرعيات ما استطاعت، مع التأسيس لشرعية شعبية أخرى أو لشرعية تنطلق من قيم الكفاح والجهاد، ويمكن أن تستلهم في هذا السبيل ما فعلته حركة فتح نفسها ضد منظمة التحرير الفلسطينية وفي الختام نقول: هنيئا لحماس بهذه الأعوام الثلاثين، ونسأل الله تعالى أن تكون الثلاثون عاما القادمة هي أعوام العز والتمكين والنصر الكبير. نشر في لا يمكن إحصاء عدد الصفعات التي يتلقاها مظلوم في عموم العالم الإسلامي في اليوم الواحد، إن الصفعة نفسها من أبسط مظاهر الظلم الذي يقع بالمسلم في عالم يهيمن عليه الاستبداد والاحتلال. إلا أن صفعة واحدة من تلك الصفعات مثلت الشرارة التي انطلقت لتغير وجه العالم.. تلك هي التي نزلت على وجه البوعزيزي في تونس فما هي حتى استحالت ثورات عربية ترسم التاريخ والجغرافيا من جديد. بعد ثماني سنوات من هذه الواقعة لم نعد نتحدث عن صفعة، بل عن مجازر وحشية منصوبة ومستمرة، عن طوفان مجنون من القتل والسجون والتعذيب والتشريد وهدم المدن وعمليات الإبادة. ولينزعنَّ الله المهابة من صدور عدوكم منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن. صلى الله على من أوتي جوامع الكلم، ففي هذا الحديث وصف دقيق للحال، وفيه كذلك وصف للحل وسبيل الخروج. وهذه السطور القادمة هي مجرد حاشية على هذا الحديث، فقد كنت كلما أعددت كلاما وجدتني أنتهي إلى حيث هذه النتيجة. نُذُرٌ من المستقبل ما إن يختار المرء لنفسه هوية وموقعا حتى يكون قد اختار معها طموحه وأهدافه، وما إن يفعل ذلك حتى يكون قد حدد لنفسه أعداءه واستشرف أول مستقبله. فمجرد وجود الإسلام يعني بزوغ الحرب مع الباطل، حربا ضروسا لا هوادة فيها، إذ التعايش بين الحق والباطل ممتنع، فكل منهما يطلب لنفسه الحق في السيادة والهيمنة وحكم الناس وتصريف أحوالهم وإنشاء نظامهم وصياغة أفكارهم. ولقد ابتدأت المعركة الملتهبة فكانت صراعا صفريا، يصوره قول الله تعالى ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ، وهو ما استلزم أن يكون قتال المؤمنين على هذه الصورة وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله. في واقعنا المعاصر تجد الحركة الإسلامية نفسها في مرمى الاستهداف والمؤامرة، ذلك أنه ما من شعب في هذه الأمة أتيحت له فرصة الاختيار إلا وحمل الإسلاميين على الأكتاف ووضعهم في المقدمة، تسفر عن هذا التجارب السلمية والقتالية على السواء، إن كان الخيار بالانتخابات تصدر الإسلاميون، وإن كان الخيار القتال لم يثبت في الساحات إلا الإسلاميون أيضا. ولهذا كفَّ مخططو النظام الدولي عن محاولة دمقرطة العالم الإسلامي حين اكتشفوا أن الديمقراطية لن تأتي بالعلمانية المطلوبة، فأجمعوا أمرهم على الحرب والاحتلال، احتلالا صريحا مباشرا مكشوفا، أو احتلالا بالوكالة عبر دعم الأنظمة المحلية العميلة التي تمثل بديلا ممتازا لتغطية وجه الاحتلال بقناع وطني محلي يثير أزمة في الشرعية ويتمتع بقدرة أعلى على مكافحة الأمة والسيطرة على الشعوب. وبغض النظر عن التفاصيل الصغيرة فإن السياسة المتفق عليها بين الجميع هي استمرار الهيمنة الأجنبية على بلادنا، يتعاون في ذلك الديمقراطيون والجمهوريون في أمريكا، واليمنيون والليبراليون في أوروبا، كما يتفق عليهم مع ذلك كله الروس والصينيون، ويعد مثال الثورة السورية واضحا في أن العالم يقبل تماما بإبادة ملايين الناس وتهجير عشرات الملايين مقابل ألا تخرج البلد من هيمنته. ولا تبدو ثمة مؤشرات في الأفق على أي تغير من جهة القوى العظمى لهذه السياسة، فالحال إما باقٍ على ما هو عليه، وإما سيزداد ضروراة وشناعة. الحركة الإسلامية: أثقال الإخفاق! فيما عدا هذه الأصناف الثلاثة التي اختارت بنفسها أن تكون ضد الحركة الإسلامية، فالحركة الإسلامية هي كل عمل ينطلق من الإسلام ويعمل له. تعاني الحركة الإسلامية الآن بجميع فصائلها موقفا حرجا، إذ أن كل السبل المطروقة لتحقيق التمكين فشلت وتعثرت، بداية من السبل السلمية الديمقراطية الدبلوماسية وحتى المحاولات الجهادية القتالية العنيفة. والتجربة الوحيدة التي مثلت نجاحا جزئيا للمحاولات الجهادية سرعان ما هُدِمت: تجربة طالبان. كذلك فإن التجربة الوحيدة التي مثلت نجاحا للمحاولات السلمية لا تزال تحت التهديد، وأعني هنا: التجربة التركية. هذا مع أن تجربة الحكم مستمرة منذ ستة عشر عاما، ولا تزال كثير من الممارسات لا يبتلعها الضمير الإسلامي إلا بتأويلات العجز والإكراه والضرورات. ولم تعد هذه المحاولة ممكنة التكرار، وتعد التجربة المصرية دليلا على هذا، كما تعد محاولات الانقلاب العسكري في تركيا ومحاولات اغتيال أردوغان دليلا آخر على أن التجربة لم تعد مقبولة. وهكذا يفرض علينا العدو نفسه خطا كفاحيا مُقاوِما، لأن الأمة بمجموعها لن تستسلم، وحتى لو اختار طيف إسلامي ما أن يستسلم ويركن بعد أن أصابه الإنهاك فالواقع أنه لن يسحب الأمة لتركن إلى جواره بل ستتجاوزه الأمة إلى غيره ممن يعبر عن المرحلة الجديدة ويكافح فيها. وأما بقية التجارب السلمية فلم تحقق إصلاحا لا منشودا ولا بعض منشود، فالنتيجة النهائية أن الأنظمة الحاكمة احتوتها ضمن نظامها السياسي فتحولت لتكون جزءا منه، فربما كان للحركة الإسلامية أعضاء في البرلمان أو في الوزارة بل ربما شكلوا الوزارة في ظروف استثنائية، لكن الصلاحيات الحقيقية لم تكن أبدا بيدها، كذلك فالمسار العام للحكومات كان غير إسلامي بل كان ضد الأمة الإسلامية، هذا فضلا عما اشتعل بين الحركات الإسلامية من معارك داخلية استفادت منها الأنظمة ومن ورائها الاحتلال الأجنبي، إذ وجب على الفصيل الموجود في البرلمان والوزارة أن يبدي أكبر قدر ممكن من الولاء للدولة والإيمان بها وإثبات وطنيته كما يبدي أكبر قدر ممكن من رفض الاتجاهات الإسلامية الأخرى، وربما استعملت الأنظمة هذا الذراع الإسلامي الموجود شكليا في البرلمان والحكومة لحرب بقية الإسلاميين، فكانت معاركٌ هلكت فيها طاقات إسلامية هائلة لتصب في مصلحة أنظمة حاكمة ممثلة ومعبرة عن الهيمنة الأجنبية. لكن المشكلة هنا في أن التجارب الكفاحية القتالية أيضا لم تنجح، وأن أحدا لا يريد أن يرى في بلاده مصائر أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا، فلقد كانت التكلفة هائلة وباهظة دون أن تتحقق النتائج المرجوة، فاختيار الانتقال إلى الكفاح مغامرة في غاية الخطورة غير مضمونة النتائج. فإذا كان هذا الاختيار مطروحا على حركات تَكَوَّنَتْ وتَشكَّلَتْ فكريا ونفسيا وتنظيميا على العمل السلمي السياسي، فإن الأمر يغدو أصعب كثيرا، بل ربما كان مستحيلا إذ هو كتكليف الأشياء ما هو ضد طباعها، وهكذا تعاني الحركة من الاختيار العملي بين الاستسلام والاستبدال! ومهما بُذِل من مجهودات تنظيرية لإثبات أن الاستسلام ليس استسلاما وإنما هو حكمة، وأن البديل ليس الاستبدال بل هو الانتحار! مهما بُذِلَت المجهودات في هذا فلن يغير هذا من حقيقة الواقع، أن الحركة الإسلامية إما أن تعيد تكييف نفسها لتُغَيِّر المهمة في المرحلة التاريخية الراهنة، أو أنها ستتعرض لسنة الاستبدال التي تجعلها صفحة من التاريخ ليأتي بعدها من يرثها. وهي إن افتقدت استلهام الإسلام في تصوراتها وسياساتها فقدت بالضرورة طبيعتها الإسلامية. هذه المرجعية تصور أن هذه الأرض ساحة للصراع بين الحق والباطل، وهي كذلك منذ نزل إليها آدم حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو صراع مغالبة لا منافسة ومشاركة، إذ لا يطيق الباطل وجود الحق ولا الحق وجود الباطل، فكل علوٍّ للحق يكون على حساب الباطل والعكس بالعكس. وليس ذلك إيمان المتعصب الأعمى العاطفي بل هو إيمان من يعرف حق المعرفة ما هو عليه من الحق وما فيه عدوه من الباطل، ويستطيع أن يخوض معركة اللسان والحجة والبيان بنفس القوة والتمكن التي يندفع فيها إلى معركة القوة والسنان. إن مواجهة الحركة الإسلامية للهيمنة الغربية المادية العلمانية التي تستعبد الناس إنما هي صورة من معركة النبي صلى الله عليه وسلم ضد عبادة الأصنام، وذلك أن النظام العالمي المهيمن على الناس الآن قد نصب أصناما وأوثانا إلا أنه غير أسماءها، بها يستعبد الناس لمنظومته وفكرته وقانونه وشرعته، فثمة أصنام على مستوى الأفكار: الديمقراطية، حقوق الإنسان، الحريات، تحرير المرأة... وثمة أصنام على مستوى المؤسسات: مجلس الأمن، الأمم المتحدة، المحكمة الجنائية الدولية، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي... وثمة أصنام على مستوى الدول: الدولة، الدستور، الأمن القومي... وكافة هذه الأصنام إنما هي أدوات ترسيخ أفكار وسياسات النظام العالمي. إنه من البائس المثير للشفقة أن ترى بعض رموز الحركة الإسلامية وطوائف من علمائها ودعاتها يبذلون غاية جهدهم لتسويق الإسلام على أنه لا يخالف كل هذه الأفكار بل هو يؤيدها وينشرها، هذا هو عين الهزيمة النفسية، وعين الاستلاب الحضاري والذوبان في الغالب. كذلك من البائس المثير للشفقة أن تعمل الحركة الإسلامية تحت سقف الدولة العلمانية الاستبدادية التي نشأت أساسا برعاية الاستعمار والتي تقوم على مصلحة المحتل، فتُكَيِّف نفسها لتكون ملتزمة بالقوانين ومنضبطة بالمساحات التي تتيحها السلطة بل ربما شعرت تجاه من يقاومون السلطة وعاملتهم كأنهم تهديد لها! لئن كان الأمر إكراهات واقعية ظرفية اضطرارية في مرحلة ما فربما يكون هذا مقبولا بأحكام الاضطرار والإكراه والاستثناء، إنما المأساة أن يصدر هذا عن قناعة بأن النظام العالمي وما يطرحه من أفكار وقيم هو إنجاز بشري وصلت له الإنسانية وينقصه فقط بعض إجراءات ليكون عادلا وشاملا ومتعايشا مع الجميع، أو أن تكون القناعة بأن الأنظمة المحلية أنظمة وطنية صادقة وأن الأزمة هي في سوء فهم بينها وبين الحركة الإسلامية أو في سوء تقدير للمصلحة الوطنية. ما لم تعتنق الحركة الإسلامية أنها تمثل النقيض للنظام العالمي والنقيض للنظم المحلية الاستبدادية فإنها لن تبلغ أن تفهم —مجرد الفهم- لماذا تتعرض لهذه الوحشية العدائية من قبل الجميع! وستظل تبذل المجهود الضخم في تأويل الإسلام وتكييفه لتُرْضِي ممثلي النظام العالمي والأنظمة الوظيفية حتى تجد نفسها في نهاية المطاف وقد تركت الإسلام على الجملة، ثم ستجد نفسها مهزومة كسيحة قد انصرف الناس من حولها وجرت عليها سنة الاستبدال! سؤال الأداة المركزية إذا استقر في اليقين أن المعركة في نهاية الأمر معركة عقيدة، معركة هوية، معركة عالمية، ميدانها كل الأرض وموضوعها الإنسان وطرفاها: حزب الله وحزب الشيطان.. إذا استقر هذا في اليقين كان سؤال الأداة المركزية سؤالا بديهيا، كما كانت إجابته إجابة سهلة واضحة: الجهاد. الجهاد ماض إلى يوم القيامة، هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحقيقة التي يجب أن تفهمها الحركة الإسلامية جيدا أن كل حركة لا تمارس الجهاد ستجري عليها سنة الاستبدال! هذا الكلام يقال في حال الرخاء والعافية وفي حال قوة الأمة وتمكنها، فأما إن كانت الأمة كالفريسة المنهوشة فإن إجابة الجهاد هي الإجابة الوحيدة الصحيحة، وهي إجابة فطرية بديهية تلقائية، يفهمها العامي الأمي البسيط دون مجهود. ومن محن الحركة الإسلام أنه إذا ذُكِر الجهاد أو ذكرت القوة سارع البعض لتمييع مفهوم الجهاد والقوة ليتسع فيشمل أنواعا أخرى، فيقال: جهاد النفس وجهاد القلم وجهاد البيان، ويقال: القوة الإعلامية، القوة الاقتصادية، القوة السياسية، قوة الإيمان... وليست المشكلة في أن نراعي كل هذه الأنواع من الجهاد والقوة، بل المشكلة هي المسارعة بالانحراف عن المعنى الواضح المباشر للجهاد والقوة، المعنى الذي يعني القتال المسلح المباشر.. سنحتاج في مسار الجهاد إلى كل أنواع القوة بداية من قوة الإيمان ومرورا بقوة التلاحم والأخوة، وسنحتاج إلى القوة الاقتصادية والعلمية والإعلامية والسياسية التي تمهد له وتضبطه وتنضجه وتحسن استعماله وتحصد آثاره.. سنحتاج كل هذا لا شك، لكن سنحتاجه ونحن نجاهد فعلا، وبغير وجود مشروع الجهاد لن نتمكن من بناء أي شيء من تلك الأنواع من القوى، فالأمم الخاملة لم تتقدم في شيء من هذا، بينما الأمم التي تحارب هي التي تخطو الخطوات الواسعة في العلم والسياسة والاقتصاد والنفوذ. ولو كان القتال يُضعف لكانت أضعف البلاد أمريكا، ولو كان السلام يوفر الفرصة للنمو الاقتصادي والعلمي والسياسي لكانت السلطة الفلسطينية أقوى الإمبراطوريات! التاريخ ينطق بالعكس: الأمة التي تجاهد وتقاتل هي التي تتفجر طاقاتها العلمية والاقتصادية والسياسية والفكرية، فتعمل آلتها التشغيلية بكل قواها فإذا بالاقتصاد يقوي الحرب ويقوي العلم، والعلم يقوي الحرب والاقتصاد، والحرب تحرس الاقتصاد والعلم.. وهكذا في دائرة تتضافر وتزداد قوة ونفوذا. بينما الضعف يأتي بالهزائم ويذهب بالمال وتتفلت منه الطاقات العلمية ويأتي بالأعداء الطامعين الذين يحرصون على زيادة الضعف والرهق واستمرار التسلط والتخلف ونهب الموارد الاقتصادية والبشرية على السواء. خلاصة القول أن الإسلام، كما قال ابن تيمية، كتاب يهدي وسيف ينصر. أو كما قال الشاعر: قف دون رأيك في الحياة مجاهدا.. إن الحياة عقيدة وجهاد بعد الوصول إلى هذا اليقين من إجابة سؤال القضية المركزية: العقيدة المناقضة المضادة لواقع وعقيدة النظام العالمي المهيمن، ومن إجابة سؤال الأداة المركزية: الجهاد لمقاومة الاحتلال والاستبداد. عندها ستتضح معالم الخريطة الإسلامية في المرحلة القادمة، وعندها ستتدفق طاقة الحركة الإسلامية في الاتجاه الصحيح. وبقدر ما اتضحت هذه الخريطة في عقول وقلوب أبناء الحركة الإسلامية بقدر ما كانت سائر مجهوداتهم متكاملة ومتضافرة، سواء منها المجهود العلمي والدعوي والتربوي والعسكري والفكري والاقتصادي والسياسي والأمني. إن انطلاقة الاقتصادي —مثلا- بهذه الروح ستخالف تماما في قوتها وطريقة عملها وطبيعة إنتاجها انطلاقة اقتصادي يتصور أن النظام العالمي هو منتهى ما وصلت إليه البشرية ولا ينقصه إلا تعديلات جزئية هنا أو هناك، ومثلها انطلاقة عالم الشرع فشتان بين من ينطلق موقنا أنه يخرج الناس من الظلمات إلى النور فيتفانى في بيان محاسن الإسلام عن علم ومعرفة ودراية بمساوئ ما يعاني منه الناس من هيمنة النظام المادي العلماني وبين من يتفاني في إثبات أن الإسلام يتوافق مع هذا النظام العالمي فيكون أحسن أحواله أن يفتخر بسبق الإسلام لبعض الجوانب مع مجهود هائل في تأول وتكلف حشر الإسلام في قالب الثقافة الغالبة. وذات الكلام يقال عن سائر المجالات. ربما قيل: لكن هذا السبيل سيكلفنا تكاليف هائلة، وسيعود على بلادنا بمصائر العراق وسوريا وأفغانستان وغيرها. والجواب: في الواقع نعم، هذا ما سيحصل، ولكنه لن يحصل لأننا اخترنا هذا الطريق.. بل هذا الطريق هو الوحيد الكفيل بتقليل الخسائر إلى أقصى مدى ممكن، وأما سائر الطرق غيره فهي التي ستودي بنا إلى هذا المصير. وبيان ذلك شيء بسيط: 1. سائر الأمم التي نهضت مرت بهذه المرحلة من مقاومة الاستبداد أو مقاومة الاحتلال أو حتى الحروب الأهلية بين طالبي الحرية ومناصري الاستبداد أو الاحتلال. إن التحرر مكلف لأن الاستقلال غالٍ، ولأنه أول طريق كل نهضة، وليس من أمة بلغت وسادت إلا وقد عانت هذا المخاض، بما فيها تلك الأمم التي علت في الأرض وهزمتنا وقهرتنا واحتلتنا. مصير أمتنا تحت الاستبداد المصنوع على عين الأجنبي ليس أحسن حالا من مصيرها إن هي قاومت وكافحت، وأولئك الذين يضربون المثل بالعراق وسوريا يغفلون عن أن نفس هذا المثل هو ردٌّ عليهم. فالعراق هو تجربة استبداد أنهك البلد حتى أسلمه إلى الاحتلال فلم يَثُرْ شعب العراق على الطاغية إنما سلَّمهم الطاغية إلى الاحتلال. وأما شعب سوريا الذي ثار فقد جاءه الطاغية بالاحتلال ليحفظ له نظامه بعدما تهدد. فصار المصيران واحدا رغم اختلاف المسلك: الاستبداد سيُسلمنا إلى الاحتلال وسيدمر بلادنا، فإما سبق الاحتلال الثورة أو سبقت الثورة الاحتلال! ما تدفعه الشعوب من ثمن لتحررها هو أقل مما تدفعه كثمن لخضوعها، فحين يترسخ استبداد لخمسين سنة أو ستين سنة فإنه يتسبب في ما لا يحصى من أصناف القتل والإذلال، بداية من الحروب العبثية مرورا بالفساد والإهمال والتخلف التي تسفر عن قتلى بالأمراض وبحوادث الغرق والحرق والسيارات والقطارات وغيرها وحتى الظلم والتعذيب والقتل.. فتكون المحصلة ملايين القتلى لكنهم يذهبون بهدوء وعلى مدى زمني طويل ثم في النهاية إما أن يُسلمهم إلى الاحتلال أو يجلب إليهم الاحتلال فيدفع الشعب ثمن الاستبداد عقودا ثم ثمن الثورة والاحتلال سنين أخرى. فلا تُقارَن نتائجُ الصمود حتى انتصار الثورة بنتائج هزيمة ثورة وتمكن استبداد من بلد ما! عند هذه النقطة لا يتبقى إلا الكلام عن الاستفادة من التجارب السابقة للثورات والحركات الجهادية لكي تتمكن الحركة الإسلامية من إنتاج مقاومة ناضجة واعية راشدة تتجنب أخطاء ما فات. نشر في مذكرات الشيخ رفاعي طه 6 من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية قصتي مع التصوف · قلت لضابط أمن الدولة: نعم، عبد الناصر صنم.. ألم يكن له خطأ واحد؟! · كنت أتمثل عبد الناصر وأخطط لتنفيذ انقلاب عسكري وحكم مصر سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي لقراءة الحلقات السابقة: تمهيد: الحلقة الأولى: الحلقة الثانية: الحلقة الثالثة: الحلقة الرابعة: الحلقة الخامسة: ولم تنته الحصة الأولى حتى كان بالمدرسة اثنان من المخبرين قد حضروا ليأخذوني إلى أمن الدولة. الا يخطيء عبد الناصر أبدا؟ بالتأكيد لقد أخطأ يوما - أخطأ في ماذا مثلا؟ - لا أدري.. أنا لا زلت صغيرا ولا أستطيع أن أعرف فيما أخطأ، لكنه أخطأ بالتأكيد! وها هو أيضا رقم هاتفي، كلمني إن احتجت إلى أي شيء، فأنت أخونا الصغير.. إلا أن هذه المقابلة أذهبت من نفسي الرهبة منهم، فمن بعد ما كنتُ خائفا ارتحت واطمأننت، لقد تصورت أني سأدخل كهف العذاب الجهنمي من رؤيتي لوجه النظر وفزع الأستاذ عيد، رغم أني لما تحدثت مع المحقق كنت أتحدث بثقة أفضل مما توقعت. إلا أن أهم ما خرجت به من تلك المقابلة أن النظام في مصر صار يتسامح مع مثل ما أقول، أو حتى: يرحب بأن تنتشر هذه المقولات التي تخدم استراتيجية السادات، وقد تبناها فعلا فيما بعد. أما في البيت فهيمن على أجواءه خوف أشد من خوف المرة الأولى. إن أبي —رحمه الله- رجل أمي بسيط، يقرأ ويكتب بصعوبة، وأمي من جهتها أمية، وهما كما هو حال الشعب المصري تلك الفترة يخافون جدا من التعرض لكل ما هو من شأن السلطة والدولة، كان أبي يقول لي: إن لم تكن تخشى على نفسك فاخش عليَّ، إني أريد أن أُرَبِّي إخوتك كما ربيتُك! كان كلامه يعكس الخوف الشديد، إلا أنني لم أكن أتأثر بهذا إطلاقا، كان يملك عليّ نفسي أني على الحق وعلى الطريق الصحيح، وحيث أن الأمر كذلك فلا اعتبار لكل ما ألقى في سبيله، سواء في ذلك التهديدات أو الرجاءات! وأبعد من ذلك أني في هذه المرحلة لم أكن أشرك أحدا في تفكيري إطلاقا، نعم.. أتحدث مع الأستاذ عيد الرافعي، وفي مرحلة لاحقة دخل على الخط أستاذ آخر اسمه سيد وكان يدرسنا اللغة العربية وكان صوفيا، وكذلك أستاذ آخر هو جمعة أبو زلازل.. كل هؤلاء كانوا يجلسون ويتحدثون معي، وكنت أستفيد منهم علميا وشرعيا، إلا أنني لا أطلعهم على أفكاري ولا أحكي لهم مقصد جميعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كنت أستشعر أن هذا عمل عظيم وأني أتفرد به، كنت أرى نفسي كمن يطوي جوانجه على السر الكبير الخطير، كأنما أنا زعيم الثورة المرتقب، مثلي مثل جمال عبد الناصر! لقد سيطرت عليَّ فكرة أنني سأصنع شيئا، بل شعرت أحيانا أني قد أصبحت قريبا جدا من أكون رئيس مصر.. إنها خمر المراهقة التي تقرب الأحلام البعيدة من الأفق البعيد فتجعلها كأنها في متناول اليد وأنه ليس بيننا وبينها إلا هذه الخطوة.. وما تلك الخطوة؟ أني سأدخل الكلية العسكرية، ثم أنفذ انقلابا.. وهكذا أصير رئيس مصر، أرأيت إلى المسألة كيف هي يسيرة؟! لا أتذكر أحداثا أخرى مهمة في هذه السنة، الصف الثاني الثانوي، لكن هذه السنة شهدت إقبالي على المكتبة وكثرة القراءة فيها، وكان الأستاذ عبده قد دخل إلى عالمي.. قبل ذلك بعام، كان خط آخر قد بدأ في حياتي.. ذلك هو خط الصوفية.. لقد كان أساتذة المدرسة متصوفة، لكنهم لم يكونوا ينتمون إلى طريقة بعينها، أما أنا ففي الصف الأول الثانوي التحقت بالطريقة الأحمدية النقشبندية.. وقصة ذلك أن لدينا جارا يعمل في مصنع ادفو للسكر، اسمه محمد، وكان يراني شابا متدينا أغدو إلى المسجد وأروح، فدعاني ذات يوم للذهاب معه إلى الزاوية، لم أمانع، ومن ساعتها كثر ترددي إلى هذه الزاوية. لم يكن عندهم علم بالشرع، وتصدق فيها الانتقادات التي توجه للصوفية، كنا في تلك الزاوية نحفظ أحاديث بسيطة جدا، وكذلك في حفظ القرآن، ولقد رأيتني أحفظ أكثر منهم، فلربما كانوا يحفظون في جز عم، بينما أنا في الجزء الخامس، وفي تلك الفترة كنت قد وصلت في حفظ القرآن إلى سورة الإسراء إلا أني نسيته لأني لم أكن أداوم على المراجعة، إلا أن هذا لم يخفض قدري بين أقراني أيضا إذ كنت أحسن منهم حفظا وكذلك استحضارا للآيات، فإذا فُتِح باب نقاش أو أردت فتح كلام فإن الآيات المتعلقة به تكون حاضرة في ذهني، والشاهد أنني كنت بين هؤلاء القوم من المنسبين لهذه الطريقة أحسنهم، فكنت أقرأ لهم القرآن، فإن غمض عليهم شيء شرحته وفسرته لهم، وما هو إلا أن بدأت في النقد والنقاش، أو قل: الجدال واللجاجة.. وهذا شيء لا تحبه الصوفية!! لا أتذكر الآن هل كنا نلتقي في تلك الزاوية كل أسبوع أو مرتين في الأسبوع الواحد، لكن الذي تنبغي الإشارة إليه هنا هو انتشار فكرة الحلول والاتحاد فيما بينهم.. لم يكونوا ينشرون هذه الفكرة من خلال الدروس، وإنما هي منتشرة في حكاياتهم. أذكرة مرة أنه قد حُكِيت أمامي أن رجلا قد سأل شيخه معترضا على كيفية الخلق، وكيف أن الله سبحانه وتعالى يخلق بعض الخلق متشابهين مع كثرتهم وتعددهم، فقال الشيخ: تعال عندي اليوم بعد العصر لنشرب الشاي معا. فحضر المريد في الموعد المضروب، فلما جلس بين يديه طرق الباب، فأمره الشيخ أن يفتح، فذهب ففتح فوجد نفس الشيخ أمامه، فصار يقلب بصره مندهشا بين شيخ جالس في الدار وشبيهه الواقف على الباب، ثم ألجمته الدهشة حتى دخل الذي بالباب، وما إن جلس بين يدي الشيخ حتى طرق الباب مرة أخرى، فأمره أن يفتح، فذهب ففتح فتكررت القصة حتى دخل الدار أربعون رجلا على نفس هيئة الشيخ الجالس في الدار. فهنا قال الشيخ لمريده صاحب السؤال: كنت قد سألتني سؤالا في الحلقة وأنا أريد أن اجيبك عليه. ما إن سمعت هذه القصة حتى غضبت غضبا شديدا وانطلقت صائحا: هذه القصة لا يمكن أن تكون صحيحة، هي بلا شك كذب! واندهش الشيخ من جرأتي وصاح بدوره: كيف تقول؟! هل تعني أنني كاذب؟ فقلت له وما زلت في غضبي: لا أدري هل أنت الكاذب أم غيرك، لعلك نقلتها من كتب ليست صحيحة، لكن اليقين أن هذه القصة كذب لا يمكن أن تصح. حتى ولو افترضنا أن هذا الشيخ قد استعمل قوة الجن وسخرهم لنفسه، فلن يمكن للجن أن يفعلوا هذا، تلك القصة في حكم المستحيل! كانت القصة في حكم المستحيل.. وكانت غضبتي هي الفراق بيني وبينهم! قررت ساعتها —وكنت في الصف الثالث الثانوي- ألا أذهب إليهم مرة أخرى. ومع هذا لم تنقطع علاقتي كلية بالصوفية، لقد كنت أعود في أسئلتي وفي مثل هذه الأمور إلى أساتذتي في المدرسة، لقد كانوا مع تصوفهم أكثر ثقافة ونضجا من هؤلاء البسطاء، لا سيما الأستاذ عبده، لكم كان مثقفا حقا، وكان شديد التدين مشهور به في مركز إدفو، وكان له شيخ أكبر منه يعمل مفتشا للغة العربية وقد بلغ سن المعاش، وكان هذا الشيخ أكثر تدينا منه وأشهر، ولقد كانت لي قصة معه لعلي أذكرها إن شاء الله.
وقد كان الباعث المباشر لفتح مصر، تأمين الشام التى حررت من الرومان، خوفا من قيام الرومان بإعادة غزوها من قواعدهم فى مصر. ولا يتم ذلك عبر التزوير الساذج كما يحدث فى مصر. كيف يكون المقتولون المقهورون المسحوقون المهاجرون الهاربون من القتل هم أنفسهم حائط صد ضد من حاول أن يعدل هذا الميزان فيضحي في سبيل ذلك بنفسه وماله وأهله. كما أن تعاملها مع الهند يتم بصورة ندية متكافئة، بعد أن فرضت الهند نفسها على الساحة الدولية. لحقت بكرامته وعظمته وعظمة أسرته. والدائرة الإسلامية الأوسع التى تمتد حتى إندونيسيا شرقا. الوسيلة الثانية: هى المحاسبة البعدية أى بعد إعطاء السلطة التنفيذية صلاحية التعامل مع موضوع معين أو قضية معينة تتم محاسبتها فى البرلمان على إجمالى النتائج، هذا فى الحد الأدنى زمنيا, والحد الأقصى يكون بمحاسبة الحكومة فى الانتخابات الرئاسية والتشريعية بإقصاء رموزها وحزبها, وهو حساب على إجمالى أدائها. لا ينبغي لأحد أن يستهين بأثر الطغيان القاهر على النفوس، هؤلاء الناس لم يجرؤوا على اتباع السحرة الذين احتشدوا لاتباعهم من البداية، وهؤلاء العناصر من الجيش والشرطة قد توحدوا مع الطاغية حتى أنهم عذبوا المؤمنين ولم يحاولوا التفكير في أن يؤمنوا بموسى بعدما رأوا هذه المعجزة الساطعة. والواقع أن تركيا التحقت كما ذكرنا بالخط الذى تنتهجه إيران وماليزيا فى هذا المجال. مثلا عندما صممت كل من الهند وإيران الأقمار الصناعية لم تبدأ من الصفر ولكنها درست كل ما نشر عن صناعة الأقمار الصناعية, وأرسلت طلابها إلى جامعات متطورة فى التخصصات التى تفيد هذا المجال. موقع الزواج من المانيات Аллен тейлор sql для чайников скачать pdf في كردي للدردشة كوم يا موقع باريس زواج
Views: 6
Tags:
Welcome to
Higgs Tours - Ocho Rios Jamaica
© 2024 Created by Noel Higgins. Powered by
You need to be a member of Higgs Tours - Ocho Rios Jamaica to add comments!
Join Higgs Tours - Ocho Rios Jamaica